تلقينا منذ ما يقارب الأسبوع خبراً مؤلماً من خلال بعض الأصدقاء برحيل شاب في مقتبل عمره عن هذه الدنيا، وقد كان ذلك في حادث سير كان مؤلماً جداً في تفاصيله .
رحمه الله، وربما يكون الخبر عادياً إلى هنا ويحدث عشرات المرات بين فترة وأخرى.
لكن المفاجأة بالنسبة لنا كانت في التفاصيل التي تكشفت لنا بعد ذلك تباعاً، بعد أن علمنا كم كانت همة ذلك الشاب تقارع الجبال الراسخات على صغر سنه، فقد كان ذلك الشاب الذي لم يتجاوز عامه الثامن والعشرين حافظاً لكتاب الله عزوجل مجازاً فيه بقراءاته المختلفة، وليس هذا فقط بل وكان يقوم بتدريسه للعشرات من تلاميذه الذين سارعوا لنعيه بأصدق الكلمات وأكثرها تأثيراً على صفحته على أحد مواقع التواصل الإجتماعي.
أما نحن فكنا منذ ذلك الوقت نزور صفحته التي تعرفنا عليها من خلال أحد الأصدقاء بين حين وآخر، لعلنا نتعرف على ذلك الشيخ الشاب الذي لم يكن لنا شرف معرفته في حياته رحمه الله، فكنا نرى ما يكتبه أصدقاؤه وتلاميذه عنه من كلمات وأوصاف لم تغب عنها الروعة ولم يفارقها التأثر وشدة الصدمة، فهذا يصفه بأنه كان قرآناً يمشي على الأرض، وآخر يقول بأن الله لعله اختار له من الحور العين زوجاً في الجنة بعد أن كان قد أخبر والدته بنيته الزواج بعد أسبوعين رحمه الله، وغيرهم يكتب بأنه كان مثالاً في الأخلاق والرقي ويصفون دروسه واجتهاده معهم في تعليمهم كتاب الله عزوجل، وحتى مساعدتهم في إتقان حفظه في صدورهم.
ولأجل كل ذلك سارعنا إلى حضور بيت العزاء في إنسان بمثل هذه المواصفات، لا لشئ إلا لكمية الخير التي تركها خلفه لعلنا نصيب ولو بعضاً منها، ونذكر كيف قام أحد الشيوخ وسط العزاء ذاكراً بأنه لم يتعرف إلى ذلك الشاب في حياته أبداً، كحال كثيرين ممن حضروا العزاء وأرغمهم ما حمل في جوفه من كلام الله عزوجل على الحضور للتعزية فيه حتى بدون أن يعرفوه لعلهم يصيبون شيئاَ من الأجر والثواب من خلال ذلك.
وكيف قام بعده رجل عرف عن نفسه بأنه تلميذ الشيخ الشاب رحمه الله، وبأنه كان أحد ستة شباب يأخذون دروساً عنده في تقويم وتصحيح تلاوة كتاب الله عزوجل كل يوم سبت منذ أشهر طويلة، وقد كان آخر درس يوم السبت الذي سبق وفاته رحمه الله مباشرة، حيث روى لنا الرجل قائلاً: "كنت أحد التلاميذ الغير مجتهدين عنده حيث كانت تلاوتي ضعيفة، إلا أن ذلك الشاب الشيخ كان مصمماً على تصحيح تلاوتي، حتى جاء الدرس الأخير قبل أسبوع من وفاته رحمه الله عندما لاحظ تحسناً كبيراً في تلاوتي فقام من فرحته وجعل يقبلني من شدة فرحه وسروره !!" قال الرجل هذه الكلمات وهو يغالب دمعته ويدعو لذلك الشاب بالرحمة والمغفرة ويشكر والديه على مثل هذه التربية الصالحة.
أما نحن فقد جالت وصالت بنا الأفكار ونحن نسمع ذلك، ونفكر في هذا الإرث العظيم الذي تركه ذلك الشاب الشيخ وراءه رغم رحيله في ريعان شبابه كصدقة جارية ليس له هو فقط بل ولوالديه معه، ذلك بعد أن ترك وراءه جبال الدعوات الصالحة له ولهم، وجلسنا نتفكر ترى كم مرة غاب عن أذهاننا بأننا جميعاً حتماً راحلون عن الدنيا ؟، والأهم من ذلك كم مرة غاب عنا أن نفكر فيما سنتركه بعد ذلك حتى ولو كان وردة جميلة زرعناها يوماً ليشتم من يمر بجوارها بعدنا رائحتها الزكية ؟، أو حتى إبتسامة في وجه لطالما اشتاق لها لعله يكون باباً للخيرات المتواصلة لنا ولوالدينا حتى بعد أن نغادر هذه الدنيا التي أخبرنا عن حقيقتها التي لا يجب أن تغيب عنا لحظة واحدة أصدق البشر صلى الله عليه وسلم عندما قال فيما رواه الترمذي: ((مالي والدنيا وما للدنيا ومالي، والذي نفسي بيده ما مثلي ومثل الدنيا، إلا كراكب سار في يوم صائف، فاستظل تحت شجرة ساعةً من نهار، ثم راح وتركها)) ؟، ولعل ذلك الشاب الذي لا نزكيه على الله عزوجل ونسأله أن يرحمه رحمة واسعة ويغفر له ولأمثاله، ويلهم والديه الصبر والسلوان ويبارك لهما في أجر تربيته الصالحة يكون مثالاً حياً على ضرورة تذكيرنا بأن نترك خلفنا في هذه الدنيا من الخير والطيبات من الأعمال ما يجعل الحجر والبشر يذكروننا ولو بدعوة صالحة لعلها تشفع لنا يوم أن نكون بأمس الحاجة إليها.