هذا العالم الجليل القدير المثير للجدل، الذي تكلم في أمور لم يتجرأ غيره أن يفكر فيها أصلاً، موضوع الفرق الباطنية (الأقليات اليوم) وموقف الشرع منها، ناهيك عن حملات التبديع التي شنها على مخالفيه من أبناء جلدته، هذا العالم السوري الذي لم ينله من سورية إلا التنكيل والأذى، فلقد زار سجونها ومعتقلاتها مراراً وتكراراً لأنه يحمل فكراً مغايراً لفكر أهلها، وعلى الرغم من أن كتبه تحمل كلمات ومعاني رقراقه وروح إسلامية سامية، تصدع بغيرته الشديدة على دينه وإرث نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يجد في سورية بيئة حاضنة لفكره، يموت الرجل ولم يقطف ثمار نجاح دعوته،وعلى الرغم من أن معاريضيه اليوم يتهمونه بالتكفير إلا أن منهجه يتسم بالدقة والموضوعية والضوابط الشرعية المدعومة بالآيات القرآنية والشواهد الصحيحة من الأحاديث والقراءات التاريخية المنضبطة، فالشيخ يمتلك ملكة فقهية رهيبة فهو مجتهد مطلق له منهجه ورؤيته العلمية الدقيقة، ولكن طريقته قد رسمت "خارطة الطريق" لكل من يريد أن يدخل المعترك السياسي بلبوس الدين والتدين، فكان ولا زال منهجه الملهم للكثير من الذين يريدون أن يصطادوا الدنيا بالدين، ولقد قيد الله لهذا الفكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي استطاع بمزاوجته للسلطة أن ينشر فكر ابن تيمية في أصقاع نجد وضواحيها.
نعود إلى البيئة الشامية التي لفظت فكر ابن تيمية ابتداءً، لم يكن يعنيها تلك المتواليات الهندسية التي يطلقها أتباع ابن تيميةعلى مخالفيهم فالبيئة الشامية تكره هذا النوع من التنطع والتكلف الزائد وحتى أن الكثير من فتاوى ابن تيمية ينظر إليها في الربوع الشامية على أنها نوع من الترف الثقافي والفلسفة التنظيرية.
لسبعة قرون لم يتمكن فكر ابن تيمية من الدخول إلى بلده الأم سورية لا ترهيباً ولا ترغيباً، ومع انطلاق ثورة الكرامة التي اصطدمت بنواة النظام الأسدي (الطائفة العلوية) إحدى الفرق الباطنية التي كان لها من إرث ابن تيمية نصيباً وافراً، فلجأ الثوار إلى فتاوى ابن تيمية لا امتثالاً وانقاداً وتديناً بل تشفياً وثأراً وانتقاماً من ظالميهم، فكان لإعطاء تلك النزعة الانتقامية طابعاً دينياًبُعداً خاصاً، مما أدى إلى انتشار فكر ابن تيمية في أرض الشام انتشاراً واسعاً (كالنار في الهشيم)هذه الأرض التي لم تكن تسمع لابن تيمية حياً ولاميتاً يدخلها الآن و يتربع على عرشها بلا منازع، ولكن فرحة ابن تيمية هذه المرة أيضاً لم تكتمل لأنه نزل في مضافة الدكتور أيمن الظواهري صاحب مشروع الخلافة العالمية عن طريق الجهاد، ومع ضرورة الحاجات الملحة للحرب وظروف الحرب القاسية التي فرضها النظام في سورية، وتخلي القريب والبعيد عن نصرة هذا الشعب المظلوم، مضى الثائرون ولو على مضض في أودية ابن تيمية، علّ الخلاص يأتي من معينه،حيث أنه الوحيد الذي يحجم ويُقزم تلك الطائفة، التي هالها أن تخرج السلطة والامتيازات من يدها، فكان للفكر السلفي صولة وجولة، في حين كانت الصوفية رديفة الأسد في الحكم تداهن وتدلس للطاغية، مما دفع الكثير من شباب الثورة للحاق بركب جبهة النصرة التي أذقت أعداء الثورة السم الزعاف.
ومع سطوع نجم أبي بكر البغدادي آخر تحديث لفكر الدكتور أيمن الظواهري الذي أمعن في قتل المسلمين قبل غيرهم تحت مسمى الخلافة، ولما كان الثوار الهدف الأول للبغدادي (لأنها ثورة كفرية) على حد تعبير صاحب الزمان، الذي أغلق باب التوبة عن المسلمين وفتح لهم أبواب المقابر، واصفاً إياهم بالكفار والمرتدين ومتأولاً قوله تعالى(قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً)التوبة123لنجد أن الكفار المقصودين في هذه الآية الكريمة هم المسلمين الموحدين المجاهدين الذين اختلفوا مع البغدادي ولو بالاستراتيجية أو التكتيك، فعاد إلى الأذهان السؤال القديم الحديث، هل يناسب فكر ابن تيمية الشعب السوري! خاصة وأن تنظيم الدولة هو نبتة سلفية بامتياز متعطشة للعب الأدوار التاريخية ولو على أشلاء ودماء المسلمين أنفسهم.
ليس من السهل أن ينتقل شعب بين عشية وضحاها من الفكر الصوفي المتساهل إلى فكر تنظيم القاعدة المتشدد بل إلى ما بعد فكر القاعدة، دون أن يصاب بالحيرة والذهول، فلقد لجأ الكثير من الثوار إلى أحضان الأسد بعد تسوية أوضاعهم، بعد أن أدخلهم البغدادي في تيه أشد من تيه بني إسرائيل،مما أعاد للأسد شعبية كان قد فقدها، فمن المعلوم اليوم أن أكثر من تسعة مليون نسمة تقطن في مناطق النظام ليس حباً به، ولكن خوفاً من أن يكونوا وقوداً للبغدادي، هذا النظام الذي يجتهد ليل نهار لإيجاد شرعية تعيد له جمهوره يجد ضالته اليوم، ليس في أروقة مجلس الدوما أو مجالس الدولية بل في انتاج فكر ابن تيمية في نسخته البغدادية المحدثة.
[COLOR=#ff0000]الكاتب مهدي محمود[/COLOR]