ان الاقتصاد يحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى كفاءات متنوعة. وطبيعة المواهب المكتسبة لا تتوقف عن التبدل وذلك بوتيرة متسارعة. ان اليد العاملة شديدة التنوع والاقتصاد الحالي مختلف جداً وخصب جداً ومتنافر جداً. وان جيوب الركود مجاورة للفروع الصناعية المزدهرة. والنتيجة هي انه من غير الممكن منذ الآن فصاعداً إيقاف البطالة بفضل ترسانة التدابير البسيطة والعمومية، ان البطالة نفسها أكثر تنوعاً في أصولها.
لذا ، يمكن احصاء سبعة تيارات متميزة على الأقل وهي ترفد البطالة الشاملة.
قبل كل شي هنالك البطالة البنيوية التي تدين لاستبدال صناعات الموجة الثانية بصناعات الموجه الثالثة. وهذه ظاهرة عالمية. ان الصناعات التقليدية العتيقة التي تتصدع أو تهاجر تترك ثقوباً فاغرة في اقتصاديات البلدان المصنعة، ويجد ملايين من الناس أنفسهم محرومين من العمل.
وتثير هذه البلبلة، إلى جانب أمور أخرى، اشتداد المنافسة على مستوى المبادلات العالمية، ولجوءاً إلى اغراق الأسواق بالبضائع، واختلالات، واندفاعات محمومة مفاجئة، وارتباكات مباغتة تهز السوق العالمية. هذا الوضع يخلق تياراً ثانياً من فقدان الوظائف: أي البطالة المرتبطة بالتجارة.
ثم إن هناك توترا عاما آخر يهدد الوظيفة ويبرز بمقدار ما ترتقي التقنية ومع التساوي على صعيد الإنتاج تتناقص الحاجة إلى الأشخاص بالتدريج وهذه هي البطالة التقنية الشهيرة والتي يدور حولها جدل كثير.
وهناك بطالة أسبابها محلية محضة أو اقليمية، فائض منتظم في الإنتاج، تغير في أذواق المستهلكين، اندماجات، مشاكل بيئية الخ. ونطلق عليها اسم البطالة ((العادية)).
كما أننا نذكر معدلاً لبطالة تخمينية ان مستوى البطالة الذي لا يمكن تجنبه هو بشكل جوهري مؤقت وتنشئة الحواس – عمل بانتظار وظيفة جديدة – أعلى من المعدل العادي. وإنه لمن الواضح كلما سارت الأمور بسرعة كلما تسارع التغيير وكلما تضخم هذا الرقم.
شكل آخر من البطالة هو البطالة التي تعود بمجملها تقريباً إلى انقطاع المعلومات فالوظائف القابلة للتبادل فيما بينها تزداد ندرة بمقدار ما يصبح تقسيم العمل أكثر دقة. والمشكلة التي تتمثل في إقامة توافق بين الكفاءة وبين المهمة المتوجب انجازها سهلة الحل نسبياً عندما كانت توكل إلى العمال أعمال روتينية وقابلة للتبادل فيما بينها وهي تصبح الآن شاقة إلى درجة كبيرة، ولكي نواجهها لابد من نظام للمعلومات أكثر حداثة بكثير من هذا الموجود حالياً. وإلى أن يصبح هذا النظام حقيقة قائمة سيكون علينا ان نتوقع للبطالة الاعلامية مستوى يزداد ارتفاعاً.
وسوف نذكر أخيراً ما يطلق عليه اسم البطالة الخرقاء وهي البطالة التي تغذيها دون تعمد سياسة حكومية خرقاء، ترمي في الغالب إلى زيادة عدد الوظائف، وأظن ان جزءاً هاماً من البطالة غير البنيوية يرتد إلى هذه المقولة الأخيرة انها مرض يحدثه الطبيب ولا شفاء منه على الأرجح. ولسوء الحظ انه لا يمكن ملاحقة السياسيين والاقتصاديين أمام العدالة بسبب خطأ مهني لا علاج له.
ومن الممكن أيضاً تعداد كثير من التيارات المغذية للبطالة وهي تتقاطع فيما بينها وتتراكب بعضها فوق بعض، ولقد كان الهدف من وضع هذه القائمة ان نبرهن بوضوح على أننا لا نجابه مشكلة واحدة وحسب بل نجابه عديداً من المشاكل المتشابكة ذات التعقيد الهائل.
وعليه ، يجب ألا يغرب عن بالنا، مثلاً، أنه عندما يقال إن التقنية يمكن أن تلد البطالة فانه لا يؤخذ بالاعتبار غير واحدة من نتائجها اذ يمكن أن تخلق كذلك وظائف في أماكن أخرى ولكن دائماً داخل النظام وهذا هو ما يجري بصورة عامة.
والحقيقة ان البطالة ذاتها تخلق الوظيفة فهي تقود إلى تجنيد عمال اجتماعيين وأطباء وجهاز شرطة، وفي بعض الصناعات تغير سلم الأجور ويمكنها أيضاً ان تفتح إمكانات جديدة لتشغيل العمال بأصغر كلفة ممكنة في المشاريع المعنية.
إن جميع المبادرات التي اتخذت كانت لها نتائج متعددة وهذه بدورها كانت لها نتائج من الدرجة الثانية والدرجة الثالثة والدرجة الألف. وكلما تجرد النظام من طابعه المكثف وتخلص من التعقيد كلما فقدت الصيغ الموجودة القوة التي كانت لها في الماضي.
وفي كل حال إن الفكرة القائلة بأن البطالة هي مشكلة إجمالية وبأنها من طبيعة كمية لا كيفية، هي فكرة تصنيعية نمطية تم تجاورها وهي مبنية على أساس أننا ما نزال نواجه اقتصاداً مكثفاً تقليدياً.
وعلى غرار ما يجرى في الاقتصاد ذاته فإن أسباب البطالة وبالتالي العلاجات المقترحة لايقافها هي مختلفة دائماً، فكل شكل من أشكال البطالة يتطلب تدابير مقابلة له ونحن ما نزال نحاول ان نداوي المرض بمساعدة مضادات الحيوية ذات الطيف الواسع بدلاً من اللجوء إلى علاجات ((ذكية)) ونوعية بالمعنى الضيق.
[COLOR=#ff0c00]أ . د / زيد بن محمد الرماني[/COLOR]
ــــ المستشار الاقتصادي وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية