كان يوماً هادئاً نتابع فيه مسؤولياتنا اليومية في العمل كالعادة عندما سمعنا لدقائق صوتاً عذباً لم ننجح في معرفة مصدره، قبل أن تمر فترة قصيرة لنسمع مجدداً صوتاً جميلاً يقرأ القرآن في داخل مكان العمل، صوتاً متقناً للتلاوة تجويداً وعذوبة وعربية فصحى وكأنك تستمع لأحد العرب الأقحاح.
بعدها انتبهنا لمجموعة من الزملاء تعرفوا على موهبة نادرة لدى الشاب الذي تم تعيينه مؤخراً لمتابعة أمور الضيافة في مكان العمل، وتحرك الفضول بداخلنا بعدها لنجلس مع الشاب ونسمع قصته منه مباشرة لعلها تحمل شيئاً من الفائدة للجميع، ولا ننكر أننا وجدنا بعض الصعوبة في البداية للتواصل مع الشاب الفلبيني "عمير"، وهي التي تلاشت عندما بدأنا الحديث معه باللغة العربية الفصحى التي يتقنها، ولم تكن هذه هي المفاجأة التي دفعتنا لكتابة هذه السطور، وإنما كانت عندما سألنا الشاب "عمير" إن كان يحفظ شيئاً من كتاب الله عزوجل "القرآن الكريم"، لنسمع الإجابة التي دوت في رأسنا كثيراً، نعم أحفظ قليلاً فقط، أحفظ خمسة وعشرين جزءاً من كتاب الله الكريم ..!
ولا يخفى على أحد أن هذه الأجزاء التي لا يحفظ كثير من المسلمين العرب ربعها ولا تشكل لهذا الشاب الفلبيني سوى القليل، تشكل أكثر من ثلاثة أرباع القرآن الكريم بأجزائه الثلاثين.
تربى عمير في منطقة "مينداناو" في الفلبين، وهي ثاني أكبر جزر الفلبين بمساحة تقارب 140 ألف كيلومتر مربع، ويتجاوز عدد سكانها العشرين مليوناً غالبيتهم من المسلمين، ويقول بانه كان يتمنى منذ صغره الالتحاق بمدرسة تحفيظ للقرآن الكريم بعد انتهاء سنوات المدرسة، وذلك لاقتناعه بان خروجه من هذه الدنيا بشئ من كتاب الله سيكون انفع له في آخرته من أي شئ آخر، إضافة لانزعاجه منذ صغره لعدم قدرته على فهم معاني كلمات القرآن الكريم التي تعلم قراءتها منذ صغره في صلاته، ويروي عمير الذي بدأ عامه الثلاثين مؤخراً قصته في حلقات التحفيظ حيث كان يشجعه والده للذهاب اليها كثيراً، بعد أن كانت والدته علمته طريقة الصلاة منذ الخامسة من عمره، ولم يكن يفهم ماذا يقرأ في الصلاة سوى أنه كلام الله عزوجل لذلك قرر وهو في العاشرة من عمره تعلم القرآن قراءة ومعاني وتجويد، فكان يذهب للمدرسة في النهار ثم يذهب في الليل لدراسة القرآن في حلقة المسجد، قبل أن يلتحق بمدرسة لتحفيظ القرآن الكريم هناك، وكان اختبار القبول يتضمن اختيار اي صفحة من القرآن وحفظها غيباً في 30 دقيقة فقط، وقد اجتاز الامتحان بنجاح حتى اتم حفظ أجزاء القرآن الخمس وعشرون خلال عامين ونصف فقط ثم يتوقف بعدها بسبب أحوال العائلة المادية.
تزوج بعد ذلك وأنجب ولداً وبنتاً يقول بأنه سيحرص كل الحرص أن يكونوا من حفظة كتاب الله عزوجل، ويقول بأن زوجته تشجعه كثيراً لاتمام حفظ كتاب الله، وهو الذي يستيقظ مع صلاة الفجر كل يوم ويستطيع أي أحد سماعه وهو يراجع القرآن دائماً ويقول بأنه يشعر بأن الحياة جميلة جداً عندما يقرأ القرآن، كما أنه لا يلغي نصيبه من الدنيا فهو يقضي يومه بين العمل ثم العودة للمنزل لقضاء وقته بين الصلاة، ولعب الألعاب الالكترونية، والتسامر مع الأصدقاء، قبل قراءة شيئ من القرآن قبل النوم منتصف الليل، وعند سؤاله ان كان يقرأ كتباً أخرى جاء رده حاسماً، أنه لا يحب ولا يريد ولا يحتاج قراءة أي كتاب غير كتاب الله عزوجل.
ويضيف عمير الذي يحب سماع القرآن الكريم بصوت الشيخ خالد الجليل ويتمنى أن يصلي خلفه في مسجده ولو لمرة واحدة، وكان يستمع لتلاوة الشيخ سعد الغامدي في صغره كثيراً، أن القرآن الكريم سيساعدك في الدنيا والآخرة ان انت لم تتركه وتمسكت بقراءته وتطبيق معانيه في حياتك، وقد قضى العشر الأواخر من رمضان الفائت في المسجد الحرام وعاش لحظات ايمانية لا توصف وهو يصلي خلف الشيخ عبدالرحمن السديس، كما يستمع للشيخ الشريم أيضاً.
هذا بالاضافة لأمر ذكره الشاب عمير بالكاد أمسكنا دموعنا عندما سمعناه منه، وهو أنه يستغرب عندما يرى من المسلمين العرب من لا يحفظون القرآن ولا يهتمون له، وهم الذين أنعم الله عليهم بانزال كتابه العزيز بلغتهم، وهي النعمة التي يتمناها كثير من المسلمين من غير العرب !
والحقيقة أن هذه السطور مع عمير قررنا مشاركتكم اياها لعلمنا ويقيننا ان كل واحد منا يتمنى ان يكون مثله لعلنا نجتهد في إرضاء خالقنا، كما لنقوم بتذكير أنفسنا دائماً أن لا نحكم على بشر من شكله أو جنسه أو جنسيته، فرب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره كما في صحيح مسلم عن حبيبنا صلى الله عليه وسلم، وان لا نكون ممن يقول فيهم خير الأنام محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة لربه:{{وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً}} الآية 30 من سورة الفرقان.
بارك الله لعمير وأمثاله في علمهم وعملهم، وأعمر قلوبهم وقلوبنا بالايمان واليقين بالله عزوجل وآياته العظام، وجعلنا وإياكم من حفظة كتابه الكريم العاملين به، وجعله شاهداً لنا لا علينا يوم تقوم جميع المخلوقات لرب الأنام.