الحياة مسرح كبير ، كل واحد فيها يمارس أدواراً محددة يكمل بعضها بعضاً ، ولكنها تختلف عن حياة المسرح التمثيلي في أن فصولها لا يعلم نهايتها إلا الله عزَ و جلَ . فلماذا نحن البشر نحدد انتهاء حياة الانسان ؟ . الإجابة هي أننا أصبحنا ننظر لهذا الانسان كنظرتنا للآلات والأجهزة لها تاريخ يحدد عمرها ونهايتها ، فبالتالي أصبحنا نقيس معظم سلوكياتنا على هذا الأساس . فوضع الانسان لنفسه الكثير من النظم والقوانين التي اعتقد أنها تنظم حياته وتسيرها على الوجه الأمثل . إلا أنه خاب في بعضها ، وقد يكون نجح في بعض آخر .
التقاعد أحد هذه الأنظمة ، حكم فيه على الانسان بتاريخ تنتهي فيه صلاحيته ، فيستبدل بقطعة أخرى جديدة تتواكب مع إيقاع الحياة الجديدة ، وهكذا يأتي من يأتي ، ويرحل من يرحل .
وماذا بعد ؟؟؟ .. أصبح هذا المدعو ( التقاعد ) شبحاً يخيف الكثيرين ، وصار عاراً قد يجعل بعض الناس ينتهي بالفعل ، ومن ثم أصبح الانسان هو الحكم والقاضي والضحية .. إن مفهوم التقاعد من المفاهيم الحديثة ، التي أخذت بها جميع الدول ، فقد ظهر نتيجة التحول للمجتمع الصناعي . وعلى الرغم من عدم اتفاق العلماء المختصين على مفهوم واحد للتقاعد ، إلا أنهم اتفقوا على عدة جوانب ترتبط بالتقاعد ، ومنها أن التقاعد يرتبط بالوظيفة أكثر من ارتباطه بالعمل . فالمتقاعد يترك الوظيفة عندما يبلغ سناً معيناً وليس شرطاً أن يكون غير قادر على العمل .
لذا ، تشير الاحصاءات إلى أن عدد الأشخاص الذين بلغوا 60 سنة فأكثر على مستوى العالم عام 2000 م حوالي 590 مليون شخص ، ويحتمل أن يتزايد هذا العدد ليصل إلى حوالي 976 مليون شخص عام 2020 م . وتشير معظم الدراسات إلى أن رعاية المتقاعدين في الدول العربية تقتصر على توفير معاش شهري للمتقاعدين بنظام التقاعد أو التأمين وايجاد مؤسسات إيوائية .
من هنا يمكن القول إن التقاعد المبكر غالباً ما يؤدي إلى فتح أبواب عديدة لعمل الشباب وتوظيفهم ، فعلى سبيل المثال ، لو تقاعد في سنة قرابة 1000 موظف ، فإن هذا يعني أن هناك 1000 وظيفة أصبحت متاحة للشباب ، خريجي الجامعات والمعاهد والمدارس . وفي المقابل فلقد أوضحت نتائج كثير من الدراسات أن التقاعد يؤثر على التوافق الاجتماعي للمسنين ، ما لم يستطيعوا تعويض فقدان العمل بأنشطة متنوعة يمكن أن تساعدهم على قضاء وقت الفراغ وإشباع حاجاتهم وتحقيق ذاتهم .
ولنا أن نتساءل عن ماهية دور المتقاعدين في البرامج التنموية في المجتمع ؟ وهل يمكن الاستفادة من القدرات والإمكانات العقلية والجسمية للمتقاعد في إنجاز البرامج التنموية ؟
إن من الأمثلة التي يمكن أن يقوم بها المتقاعد : الأعمال الترفيهية والثقافية والأدبية ، وأعمال تعليمية وتربوية ، وأعمال اقتصادية واجتماعية ، وخدمات نفسية واستشارات مهنية .
ولذلك فأنا أنادي بأن يتم تيسير عملية التقاعد المبكر وتسهيل إجراءاته وتخفيف متطلباته وتقليص مدته والتحفيز عليه والدعوة إليه ، ذلك أن ظاهرة البطالة أصبحت هماً مقلقاً من هموم مجتمعنا المحلي .
إن العزلة بالنسبة للمتقاعد مبكراً من أبرز الآثار النفسية التي يواجهها ، إذ يشعر بعدم قدرته على التكيف مع البيئة الاجتماعية الجديدة ، حيث كان العمل ـ في السابق ـ يساعده على حل كثير من مشكلاته ، إلى جانب الأهمية والمكانة الاجتماعية . كذلك فإن قلة الموارد المادية تجعل المتقاعد يعيش في ظروف حياتية صعبة ، حيث لا يستطيع تحمل تكاليف السكن في بيت مريح ومناسب أو أن يتغدى بشكل مناسب ، وأن يدفع فواتيره الشهرية بسهولة .
من ثم فينبغي على المجتمع أن ينظر للمتقاعد مبكراً أن مشكلته ليست في ضرورة توفير المسكن والملبس والمأكل باعتبارها حاجات مادية أساسية ، فضلاً عن الرعاية الطبية ، بل إن سياسات الرعاية للمتقاعدين ينبغي أن تمتد إلى إشراك من له القدرة في البرامج التنموية في المجتمع .
من هنا فإني أرى أهمية رصد آثار التقاعد ، مع الإجابة على كثير من التساؤلات التي تؤرق وتزعج المتقاعدين ، من أجل تقديم رسالة واضحة للمتقاعدين ، نقول لهم فيها إن في العمر بقية ، والحمد لله ، ينبغي اغتنامه في الصالح النافع .
[COLOR=#FF0036]أ . د / زيد بن محمد الرماني[/COLOR]
ــ المستشار الاقتصادي وعضو هيئة التدريس
بجامعة الإمام محمد بن سعود الاسلامية