زرت رجل أعمال سبعيني بمكتبه الكبير ، واحتسيت كوب قهوة مرفق بقطعة شوكولاتة راقية قدمها لي عامل المكتب ، تحدثنا وتحاورنا ، حتى سألته عن اللوحة الغريبة التي بالمكتب ، لماذا هي هنا ؟ هل لديك سلسلة مطاعم ؟ تبدو قديمة ، لكن أرى صحن كباب شهي مع قنينة طماطم الكاتشب ، فقال : إن هذه اللوحة عزيزة على قلبي ، والكباب والكاتشب هما السبب بعد الله في صعودي سلم الأغنياء ، فطلبت منه أن يخبرني كيف ومتى وأين ، فقال :
كنا نعيش بدولة البحرين ، وكنت في الثانية عشر من عمري ، وقد اصطحبنا والدي إلي حديقة عذاري الشهيرة ، كان الوقت بعد المساء ، فطلب والدي من أمي أن تجهز العشاء ، فإذا بها تدني السلة بقربها ، وتخرج منها كيس خبز عربي ، وكيس آخر به عدد من البيض المسلوق ، فألقى أبي الخبز فوق الكيس البلاستيك ، ووضع بيضة بوسط كل قرص خبز . في الأثناء كانت رائحة الكباب المشوي تغزو المكان ، فبالقرب عائلة غنية تشوي اللحم وكل ما لذ وطاب ، لقد عرفناهم أنهم أغنياء من ملابسهم الجميلة ، وسياراتهم الفارهة ، أنهم مختلفون ، وكأنهم جاؤوا من كوكب آخر ، فأشكالهم وكلامهم ، وطريقة أكلهم ، حتى ابتساماتهم وضحكاتهم مختلفة !
كانت بينهم سيدة ممتلئة واقفة أمام طاولة الشوي ، وكانت تضع أسياخ اللحم الذي قتلنا برائحته الزكية ، كنت أنظر لأبي كيف يتساقط البيض من بين يديه ، كان يقضم ويتنهد ، وكأنه يشكي الحال لله ، فسألته ماذا يأكلون ؟ فأجابني وكأنه لايعير انتباها " فقط لحم ويسمى كباب " ، وسألته عن القنينة الحمراء التي يسكبونها على اللحم ، فقال : أنا أعرفها ، تدعى كاتشب ، وهي مركز الطماطم الحلو ، فرؤسائي الأمريكان يستخدمونها بالشركة الأمريكية ، لكن لم أفكر قط باستخدامها ، وكيف ذلك وأنا عامل نظافة لديهم وممنوع من دخول مطبخهم .
أمي تراقب الوضع بصمت ، فهي تحاول أن تلتقط البيض المتساقط من بين أيدي إخوتي ، وكأنها لاعب كرة ، لقد كانت ضحكات فتياتهم الفاتنات تطرق أذاننا ، وضحكاتهم المتواصلة ترجعنا للخلف كلما حاولنا أن نبتسم ، فانتهوا من العشاء ، وأرسلوا لنا السيدة البدينة مع صحن به بقايا لحم الكباب المشوي ، وبدا بعضه مأكول ، فقالت أختي ، ياليتهم يرسلوا لنا الكاتشب ، فأمرني أبي أن أحضره ، فرفضت ، فأرسل أخي الأصغر ، وذهب ووقف أمام أحدى نسائهم ، فأعطته القنينة وهي تنظر إلينا مع ابتسامة دغدغت مشاعرنا المنكسرة .
لقد جن جنون عائلتي ، وكأنهم ثلة قطط وجدوا فريستهم الضالة ، فهم في حالة انقضاض على الكباب وكأن بينهم ثأر ، لقد أكلوا بأيديهم وأرجلهم أن بالغت ، أما أنا فلم ألمس قطعة منه ، فأنا متحفظ على ماجرى ، وقد أعززت نفسي أن لا أأكل بقايا غيري ، فمضت السنون والقصة فوق سلة ذاكرتي ، فأكملت دراستي بجد وأجتهاد ، وسافرت للخارج ، وتخرجت ، وأصبحت مستشار رجل أعمار ، ثم رجل أعمال بعد أن اقترضت رأس مال من أحدى البنوك ، فأنتقلت للسعودية وأستمريت بالتجارة المحلية والدولية ، حتى بلغت ثروتي الأن بمئات الملايين من الريالات .
فسألته عن اللوحة ، فقال : بعد أن تخرجت من جامعة غلاسكو بمملكة بريطانيا ، وبعد أن تزوجت ، ذهبت مع زوجتي الي حديقة عذاري ، وجلست بنفس المكان تقريباً ، وتعشينا بمشوي الكباب الفاخر ، والكاتشب المستورد ، وأخذت صورة بالكاميرا لهما ، ثم كبرت الصورة لدى الأستوديو ، وهي هنا معلقة منذ أربعين سنة ، وماهو شعورك الأن ؟ " سألته " ، قال : أكثر موقف ترك أثراً بنفسي هو أنقضاض عائلتي على الكباب وكأنهم سباع ، ثم جمعهم باقي لفائف البيض المسلوق ووضعه بالكيس لليوم التالي ، وهذا ما جعلني أثأر من الفقر المدقع الذي كنا نعيشه ، ودفعني للأمام ، وصنع بداخلي جبلاً من الإرادة والتحدي والصمود ، وأعلم أخي ، أن الإنسان المكافح هو الذي يصنع الحياة السعيدة .
[COLOR=#FF0036] فوزي صادق[/COLOR]
/ كاتب وروائي سعودي