قبل عدة أعوام تعرفنا إلى إنسان بمثابة موسوعة تمشي على الأرض، ذكر لنا بنفسه أنه كان يقرأ 30 صفحة يومياً، ليكون آخر لقاء جمعنا به بعد أربعة أشهر من اللقاء الأول تقريباً، يوم أن فاجئنا بأنه اختارنا ضمن مجموعة سترافقه لزيارة المدينة المنورة، فلم نستطع إخفاء دهشتنا الممزوجة بالفرح متسائلين عن الموعد، فأخبرنا أنه سيبلغنا بعد أيام قلائل، وإنتظرنا الخبر دون أن نتوقع المكالمة التي جاءتنا بعد أقل من شهر لتخبرنا أن "أبو أنس" توفي إلى رحمة الله تعالى !!!
من شدة الصدمة لم نستطع السؤال عن أي تفاصيل يومها، فأعدنا الإتصال للتأكد مما سمعنا، كيف ومتى، ولن نقول لماذا لإيماننا بالقضاء والقدر، والذي لم يمنع حزننا على شخص لم نعرفه إلا لعدة أشهر، واختارنا لمرافقته إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن قدره كان أن يسبقنا إلى الرفيق الأعلى !
قبل 10 أيام علمنا عن معاناة أحد أبناء الوطن المقيمين في العاصمة السعودية، والذي أصيب بمرض السرطان بشكل مفاجئ، ويعيل أسرة مكونة من الزوجة وولدين وابنتين أكبرهم لا يتجاوز 15 عاماً، وكانت المعضلة في نقل الرجل للأردن بأسرع وقت للعلاج، وسارعت كل الجهات المعنية لمتابعة الأمر، وبالنسبة لنا سارعنا لزيارة العائلة في منزلها في اليوم التالي حتى لا نكون ممن يحكمون على الأمور بدون أن يخبروها عن قرب، وجلسنا مع "أبو عبدالرحمن" المحب للشعر والمحاضر الجامعي في مادة اللغة الإنجليزية، وشاركنا الجلسة زوجته وابنه الأكبر، وكانت المفاجئة تأكيد الرجل الذي يبلغ 49 عاماً أنه لم يشتكي من مرض في حياته، حتى أنه وبشهادة عائلته لا يطيق الذهاب للأطباء، إلى ما قبل 5 شهور فقط عندما سقط مغشياً عليه خلال إعطائه إحدى المحاضرات في جامعة الملك سعود ...!
لتبدأ معاناة الرجل مع المرض، والذي ذكر لنا بأنه متأكد أن هذه عين وحسد والله أعلم، برغم أن عيونه المليئة بالألم والأمل معاً كانت تعبر عن صعوبة حالته بوضوح تام، لنغادر بعدها ونحن ندعو له بالشفاء ويزداد حرصنا على التواصل مع كل الأطراف المعنية بالأمر، والتي لم توفر جهداً للتسريع في إجراءات نقل الرجل للأردن للعلاج، حتى وقفت عقبة قوانين الطيران التي تمنع سفر الحالات التي يمكن أن يشكل السفر خطراً على حياتها، وبرغم ذلك استمرت المحاولات حتى صبيحة يوم الخميس 06-02-2014م، أي بعد أسبوع واحد فقط من زيارتنا للرجل في منزله، عندما علمنا عن مغادرة الرجل ليس إلى الأردن للعلاج، وإنما للدنيا بأسرها ...!
أوجعنا الخبر في الأعماق فكنا نتمنى أن تنجح محاولات إنقاذ حياة الرجل من أي طرف كان، لكن مصداق قوله عز وجل في نهاية سورة لقمان: "وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت" كان أسرع من الجميع، لنحاول بعد ذلك التحدث إلى زوجة الرجل لتعزيتها على علمنا بصعوبة الأمر وتعقيده، وهي التي أظهرت مثالاً في الوفاء والصبر، والإصرار على الوقوف بجانب زوجها والتمسك بأي أمل مهما صغر أو تناهى حتى اللحظة الأخيرة، ثم الى الابن الاكبر "عبدالرحمن" الذي أحببنا فيه خلقه الجم وأدبه الوافر، ورأينا في عيونه امتداد نجاح وتميز والده بإذن الله تعالى لتعزيته ومحاولة تهدئته، وهو الذي فاق تأثره الوصف عندما علم بالخبر.
مفارقات تمر في شريط حياتنا تدفع قلمنا للكتابة رغماً عنه أحياناً، ولا يسعنا إلا أن نتمنى من كل من يمر بهذه السطور مشاركتنا دعواتنا بالرحمة لكل من "أبو أنس" و"أبو عبدالرحمن" ولكافة أمواتنا أينما كانوا، ونسأل الله عز وجل أن يغفر لهم ويرحمهم، ويعافهم ويعف عنهم، ويكرم نزلهم ويوسع مدخلهم، ويبدلهم داراً خيراً من دارهم، وأهلاً خيراً من أهلهم مع أهلهم، وأن يغسلهم بالماء والثلج والبرد، وينقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الابيض من الدنس، ويثبتهم بالقول الثابت عند السؤال، ويبعد عنهم عذاب القبر وعذاب النار، ويدخلهم الجنة مع الأبرار الأطهار، ويلهم اهلهم وذويهم الصبر والسلوان، ولا يحرمهم اجرهم ولا يفتنهم بعدهم، ويرحمنا جميعاً اذا ما صرنا إلى ما صاروا إليه، كما نسأله جل في علاه أن يجعل أهلهم خير صدقة جارية لهم من بعدهم، حتى يجتمعون معهم وكافة أحبابهم في جنان الخلد بإذن الله تعالى.
ونهمس في أذن "عبدالرحمن" وإخوته، وكل من فقد والدا أو والدة أو عزيزاً عليه، أن يتذكر قدوتنا خير الخلق أجمعين رسول الله محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، الذي فقد والده وهو في بطن أمه، ثم والدته وهو لم يتجاوز العام السادس من عمره.
ونتذكر ونحن نكتب هذه السطور مقالتنا "قبلة على جباه آبائنا ...!!" التي أهديناها لوالدنا قبل يوم واحد فقط من لحاقه بوالدتنا رحمهم الله تعالى، وكم نتمنى أن يعمل كل واحد بيننا على أن يكون أجمل قبلة على جبهة أباه وأمه سواء في حياتهم أو حتى بعد فراقهم، مستذكرين قول الشاعر: لا تقل أني وحيدا مفردا ... رب فرد عز قوم أو ذل.
وبرغم الحزن الساكن في ثنايا كلماتنا، إلا أن ذلك لم يمنع مرور بريق جميل فيما بينها، مما رأيناه من فزعة نشامى الوطن في الغربة، مسؤولين كانوا أو إعلاميين أو فاعلي خير، من أجل الوقوف مع ابن بلدهم في محنته، متحركين من منطلق واجبهم الديني والوطني والأخلاقي حتى قبل الواجب المهني أحياناً، ليضربوا أروع الأمثلة في التكاتف والتلاحم لشعبنا في غربته بفضل الله، ونقول لكل واحد من هؤلاء بإسمه، سواء عرفناه أو لم نعرفه على اختلاف مناصبهم ومواقعهم وأدوارهم، بأن جمالية الوطن لا يمكن أن تكتمل إلا بالشامات التي تزين صفحة وجهه، والتي ستبقون أنتم دائماً أجمل عناوينها.
أما هؤلاء الذين يسارعون في كل مرة للحديث في أمور لم يعرفوا تفاصيلها، وللإساءة والتقليل من جهود الآخرين ونسفها من أساساتها أحياناً، ممن تناسواً واجبنا بأن ننطق بالخير أو نصمت، نذكرهم بأننا سنقف يوماً لنسأل عن كل أفعالنا وأقوالنا أمام خالقنا عز وجل، فإن كنا عاجزين عن زرع الورود التي نعطي بها أجمل الصور عن ديننا وأوطاننا وأخلاقنا، فلنحرص على عدم قطع الورود الموجودة على أقل تقدير، ذلك بوضع مخافة الله بين أعيننا، وأن نتذكر دائماً قوله عز وجل في الآية 36 من سورة الإسراء: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً}.
[COLOR=#FF0026] بقلم م. عبدالرحمن "محمدوليد" بدران[/COLOR]