إن إضاعة الأمانة أمرٌ كونيٌ قدري حاصلٌ لامحالة لأنه نص حديث الذي لاينطق عن الهوى ﷺ ولن تقوم الساعة حتى يحدث ، لكن سيسبق ذلك ما أخبر عنه ﷺ فيما رواه البخاري في صحيحه أنه ﷺ قال:
((إذا ضُيِّعَتِ الأمانةُ فانتظر الساعة, قال: كيف إضاعتُها يا رسول الله؟ قال: إذا أسندَ الأمْرُ إلى غير أهله, فانتظر السَّاعة))"أخرجه البخاري في الصحيح"
هذه هي الشرارة الأولى التي ستحرق بعدها ماأخضَرَّ وأينَع من بساتين الأمانة والصدق وطهارة النفس وسلامة الضمير ، فتحيل ذلك كله إلى حطام يأكل بعضه بعضاً.
إن لكل عمل أهله، ولكل ميدان فرسانه فإذا قام بالعمل من ليس له بأهل, فقد اقتربت الساعة.
لا شك أن مجرد حدوث علامة من علامات الساعة لايعني الاستسلام لها ولا الركون إليها ولا الذهول بها، بل إن من انتظار الساعة العمل الجاد الدؤب ومدافعة تلك العلامات بما أرشدنا الله تبارك وتعالى به وعلى لسان نبيه ﷺ .
إن إسناد الأمور إلى غير أهلها خيانة من علامات الساعة ونحن مأمورون بمدافعة تلك العلامة الفاسدة بأن نسعى إلى أن نُسنِد الأمر إلى أهله ونحقق بذلك الأمانة في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً}النساء 58.
ومن أعظم الخيانات إسناد الأمور إلى غير أهلها، لما في ذلك من الظلم للأكفأ بعدم وضعه في موضعه وإسناد الأمر إليه، ولغير الأكفأ الذي أسندت إليه الأمور وهو غير قادر على القيام بها، وللأمة التي تصطلي بنار التدابير السيئة الصادرة من غير الأكفأ، ولولي الأمر نفسه الذي أسند الأمر إلى غير أهله.. فهو يتحمل إثم إسنادها إلى غير أهلها.. وإثم حرمان الكفء مما يجب أن يسند إليه.. وإثم ضرر الأمة من تدبير غير الكفء السيئ..
أمر الله سبحانه بأداء الأمانة إلى أهلها و السبب الرئيس في كل ما يخالف أمر الله تعالى هو اتباع الهوى الذي يُرجِّحه فاقد الإيمان أو ضعيفه على ما يحبه الله ورسوله، كما قال
( فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}القصص 50.
لذلك كان متبع هواه من أهل الجحيم، ومتبع هدى الله من أهل جنة النعيم.. قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات 37-41.
وإذا غلب على المرء اتباع هواه أرداه في مهاوي الهلاك وهو يظن أنه يبني لنفسه المجد الشامخ..
وقد يختار غير الكفء لموافقته له في الفسق، من أجل أن يعينه على فسقه، أو لأنهما ظالمان، ويريده أن يعينه على ظلمه، أو غير ذلك من الأسباب، وكلها أسباب تافهة هزيلة لامعيار يحكمها ولاتقاس بمقياس ..ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله: "فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره، لأجل قرابة بينهما أو ولاء أو عتاقة أو صداقة أو موافقة في بلد أو مذهب، أو طريقة، أو جنس، كالعربية والفارسية، والتركية، والرومية، أو لرشوة يأخذها منه من مال أو منفعة، أو غير ذلك من الأسباب، أو لضغن في قلبه على الأحق، أو عداوة بينها، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين،ودخل فيما نهى عنه في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}[الأنفال 27-28.
إن من يُسنِدُ الأمر إلى غير أهله إنما يفعل ذلك لخوفه من ( أهله ) أن يتولوا الأمر فيكشفوا ماكان عليه من الفساد والرذيلة أو خوفاً وحسداً من أن يتولوا الأمر بعده فيقومون به خير قيام لكفاءتهم وأهليتهم.
إننا قد نكون شركاء في تلك الخيانة إذا تولى أحدنا أمراً وكان تحت ولايته من هو أفضل منه ورضي بذلك.
وقد نكون شركاء في تلك الخيانة بموافقتنا ورضانا أو حتى تجاهلنا بعدم أهلية من أُسند الأمر إليه وسُكوتنا عليه ..والله هو العاصم.
[COLOR=#FF0045]م.ياسر عبدالجبار الغامدي[/COLOR]