إننا مدعوون؛ أفرادًا وجماعات ومؤسسات حكومية، وخاصة إلى اقتسام المسؤوليات كل من زاويته الخاصة، وبقدراته المتاحة، وإلى توزيع الأدوار؛ بحيث نضمن النجاح والتكامل.
إن مجتمعا تكثر فيه الأمراض الاجتماعية؛ العنف، والجريمة، والإدمان، والانحرافات الجنسية، واستغلال الطفولة، سيكون هو حتمًا مريضًا، وبحاجة إلى إعادة تنظيم من خلال تفعيل الرعاية الاجتماعية، وتأمين الاحتياجات الخاصة بالفرد وبالمجتمع؛ تأمينًا لحالات الاكتفاء والإشباع.
إن المجتمع المريض هو الذي يحول دون إشباع حاجات أفراده، والذي يفيض بأنواع الحرمان والإحباطات والصراعات، والذي يشعر فيه الفرد بنقص الأمن وبعدم الأمان.
كما أن التنافس الشديد بين الناس وعدم المساواة والاضطهاد والاستغلال، وعدم إشباع حاجات الفرد، ويُضاف إلى ذلك وسائل الإعلام الخاطئة غير الموجهة، والتي تؤثِّر تأثيرًا سيِّئًا في عملية التنشئة الاجتماعية.
كل هذه الأسباب إلى جانب أسباب أخرى تدفع الفرد الذي يعيش في مثل هذا المجتمع المريض إلى سوء التوافق الاجتماعي، بحيث يكون السلوك المريض والشيخوخة المبكرة وغير السوية النتاج المتوقع لهذه المساوئ.
فمن المعروف أن تدني الحالة الاقتصادية لأية عائلة لا يسمح بتلبية جميع متطلباتها، وتلعب البطالة وفقدان الموارد الأولية دورًا فاعلاً في هذا التدني.
وفي هذا المجال، وجد سالوس في دراسة له على الأحياء البائسة والمعدمة اقتصاديًّا أن العوز المادي ليس كافيًا بمفرده لتفسير الانحراف، فهناك متغيِّرات خمسة تميز عائلات المنحرفين؛ غياب الأب، وسوء تفاهم الوالدين، والبطالة، وعدم الاستقرار المِهَنِي، والإدمان الكحولي في الأسرة، والماضي الجانح لأحد الوالدين.
وقد أظهرت الدراسة التي أعدتها الأمانة العامة للأمم المتحدة عن الوقاية من جنوح الأحداث أن الزيادة في حجم جنوح الأحداث أكثر وجودًا في البلاد الآخذة في هذا النمو، وأن التغييرات الاقتصادية والصناعية الجديدة في البلاد الآخذة في النمو ذات أثر مباشر على تزايد جنوح الأحداث.
ومن الجدير ذكره أن عمليات النمو والتحضُّر قد لا تكون السبب المباشر في الانحراف، إنما ما يرافق ذلك أو يترتب عنه كالتفكك الذي يصيب الأسرة من جرَّاء ذلك أو سوء التكيف الذي يصيب النازحين من الريف إلي المدينة؛ بحثًا عن العمل أو التعارض في القيم بين قيم الواقع وبين ما يرجى أن يكون. كل ذلك يشكل ضغوطًا على الناشئة تساعد على ظهور الانحراف أو تعجل في ظهوره.
ومن الأسباب التي تضاف إلي ذلك التضخم المالي وغلاء أسعار المواد الاستهلاكية أو احتكارها، إن هذه الأسباب تسهم في سوء الحالة الاقتصادية التي تنعكس مرضًا اجتماعيًّا متمثلاً بالقلق والخوف على المصير، كما أن سوء الوضع الاقتصادي قد يدفع العديد إلى ممارسة بعض أنواع السلوك الممنوع أو المرفوض اجتماعيًّا كأعمال الغش والتزوير، والاتجار بالمخدرات، وقبول الرشوة، والسرقة والاحتيال.
لذا يرى رجال الاقتصاد وعلماؤه أن أسباب الانحراف الاجتماعي تكمن في سوء الحالة الاقتصادية المتمثلة بمشكلات تعود إلى الفقر والبطالة، والفشل الناتج عن سوء التوافق المهني في هذا المجال، فإن بعض الاقتصاديين يربط بين الانحراف والفقر معتبرًا إياه السبب الأول، مستشهدين على ذلك بأن غالبية نزلاء السجون من أصل فقير، كما أن الفقر يولد العديد من المشكلات الحياتية المتعلقة بالصحة والسكن والتعليم وتوازن الأسرة، والتي تولد الانحراف.
وعلى العكس من ذلك يعتبر اقتصاديون آخرون أن الغنى والرخاء هما سبب ازدياد حالات الانحراف. ويصدق ذلك في البلاد المتقدمة صناعيًّا؛ حيث نرى ازديادًا لعدد الأحداث الجانحين.
والمعترضون على ربط الانحراف بالفقر يشيرون إلى أن الإحصاءات تكون عادة مضللة لأسباب عديدة؛ منها: أن معظم جنح الأغنياء تبقى خفية أو تسوى قبل أن تصل إلى المحاكم، كما أن الفقراء لا يتمتعون عادة بوسائل الحماية التي تتوفر للأغنياء، وأيضًا لأن الفقراء هم أكثر الناس تعرُّضًا للملاحقة وسوء الظن.
وإذا كان الفقر سببًا للانحراف، فكيف يمكن تفسير التصرفات غير المشروعة والمنحرفة التي تكثر في أوساط رجال الأعمال، كما هو معروف للجميع؟!
وأمام هذا التناقض يمكننا القول: إن الفقر بوجوهه المتعددة قد يشكل ظروفًا أو مناخات مهيئة للانحراف، أو على الأقل فُرَصًا تسهل للسلوك الجانح احتمال حدوثه.
إن مهمة الباحث النفسي والاجتماعي وبعد تزايد الاهتمام بالفرد، والأخذ في الاعتبار البعد الإنساني ليست في إدانة المنحرف وإصدار الحكم عليه، بل البحث في ظروف الانحراف، وفي أسباب هذا العمل المرفوض، إلى جانب البحث الجدي والمتعمِّق في شخصية المنحرف؛ لمساعدته على إعادة النظر في سلوكه وفي تغيير مواقفه الخاطئة، وعلاج الأمراض الاجتماعية يحتاج إلى فريق عمل يضمُّ على الأقل: طبيبًا نفسيًّا، ومرشدًا اجتماعيًّا، ومرشدًا دراسيًّا ومهنيًّا.
وتبرز أهم ملامح علاج سلوك المنحرفين فيما يلي:
1- استثارة تعاون المريض وإثارة رغبته في العلاج.
2- محاولة تصحيح السلوك المنحرف وتعديل مفهوم الذات.
3- إرشاد الوالدين وتوجيههما لتحمُّل مسؤولية العمل على تجنيب الطفل التعرُّض للأزمات النفسية والاجتماعية.
4- تغيير السلوك داخل المنزل وشغل أوقات الفراغ بالترفيه المناسب والرياضة.
5- إنشاء المزيد من العيادات النفسية المختصة لعلاج الأمراض النفسية والاجتماعية.
إضافة إلى تضافر العلاج السلوكي، والعلاج الطبي، والعلاج النفسي للشخص المنحرف.
أ . د / زيد بن محمد الرماني ــــ المستشار الاقتصادي
وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية