تنشأ الخلافات والصراعات البشرية غالبًا من اختلاف في تفسير بعض الكلمات، والدُّبال: هو إحدى تلك الكلمات التي يمكن الاختلاف حولها، فمعناها عند الكيميائيين، يختلف عمَّا عند علماء البيئة والفلاسفة والشعراء، أما عند فلاح الأمس، فهو الغذاء والخصب للأرض.
إن المقصود بالدُّبال، الزبل المترب الضارب للسواد الذي تكشفه ضربة قدم في الغابة، أو المرعى أو الحقل أو الحديقة، ويتشكل في الطبقة السطحية للتربة؛ نتيجة تحولات المادة العضوية من أي مصدر كان، وفي داخل التربة من اتحاداتها بالمعادن والكائنات الحية الدقيقة.
فالدُّبال إذًا ركيزة الصفات الحيوية والوظيفية للتربة المساهمة في الإنتاج، والتعبير عن العلاقات الوطيدة بين الأرض التي يجعلها حيَّة، وبين الكائنات الحية الأخرى، إنه الرباط بين الأرض والإنسان، إنه إكسير الحياة.
يقول أندريه بيير في كتاب له عن ظاهرة الدُّبال: الدُّبال مادة عضوية سمراء قاتمة، خفيفة الوزن، داكنة اللون، تميل إلى السواد، تنتج عن تحلل المادة العضوية للمخلفات النباتية، والفضلات الحيوانية، بعد طمرها وتخمُّرها، فتسهم في تحسين البنى الهيكليَّة، وإغناء التربة الفقيرة، والتوازن الغذائي لها.
ويؤدي نقصان هذه المادة في التربة إلى نقص العناصر الغذائية، واستنزافها، والتأثير على الثمار والمحاصيل، ومن ثَمَّ تبدأ الأمراض المجهولة تظهر بوضوح.
فالدُّبال هو الذي يعطي التربة قيمتها، وبخاصة في الأراضي المستصلحة والمستثمرة زراعيًّا؛ لأنه يعمل على تفكيك التربة الطينية الثقيلة وتهويتها، كما يغيِّر من طبيعة التربة الخفيفة، ويزيد من تماسكها، وتحسين قوامها، وزيادة العناصر الغذائية فيها.
وهكذا تسهم البيئة الطبيعية مع الإنسان في تجديد قوى الأرض، واستمرار الحياة فيها.
إن مشكلة أو ظاهرة الدُّبال تتخطَّى زمان الوجود البشري؛ فهي مشكلة أجيال، تخصُّ كل الكائنات منذ وجدت حياة منظمة على كوكبنا، فكانت ملكًا لجميع البلاد التي مارست البشرية الزراعة فيها، وهي ملك لجميع شعوب يومنا هذا، وستكون ملكًا لجميع الأجيال القادمة بعدنا.
إنها مشكلة عالمية، تتجدد معطياتها كل لحظة من لحظات حياتنا، ورغم بُعدنا عن تقليل أهميتها، فإن التطور التقني يزيدها حِدة.
إنها مشكلة زراعية، بل أكثر من ذلك، إنها مشكلة حيوية وبيئية واقتصادية وبشرية في آنٍ واحد.
إنها مشكلة تنظيم العلاقة بين الأرض والإنسان، إنها مشكلة حضارة.
هذه المشكلة منسية في عصرنا الحالي، ليس من الناحية الفنية فحسب، بل بوصفها أساسًا للحياة، وباعتبارها قاعدة بناءٍ ترتكز عليها الصحة والسعادة البشرية.
ومنذ عدة سنوات خلت أصبح الشغل الشاغل لكثير من الدول الحديثة حماية نوعية البيئة الطبيعية لضمان حياة شعوبها.
إن التأثيرات المذهلة لتلوث البيئة قد فتحت الأعين على نتائج سلوكنا السيِّئ تجاه الطبيعة، فبدأت مجتمعاتنا تفهم ما يجب علينا عمله ضد العوامل الضارة التي تهدم الحياة.
إن ثمة معركة ضارية تقوم ضد التلوث تدعونا إلى التشمير عن السواعد، بيد أنَّ الدُّبال في خضم جميع هذه الاحتجاجات والممارسات، يبقى مهملاً، وهذا الإهمال موجود في الزراعة، وفي سائر البرامج الاقتصادية.
لقد جاء نسيان الدُّبال تدريجيًّا في البلدان الحديثة حتى المزارع ذاته أصبح بعد الحرب العالمية الثانية مستثمرًّا، والمعنى ذو مغزى كبير للغاية؛ فقد تلاشى الاهتمام الأول بالدُّبال، بقدر ما أخذ مفهوم الاستثمار شكله وبُعده.
حتى الحركات والمنظمات والجمعيات البيئية ذاتها بعيدة عن الاهتمام بالدُّبال، وأصبح الإهمال الحالي له عامًّا وشائعًّا.
ومن ثَمَّ، فقد هجر الدُّبال من الجميع، وللأسف.
إن هدم الدُّبال مأساة كبيرة يخنق اتساعها وتطورها كل مراقب مثقَّف، وتبدو مسؤولية الإنسان واضحة عن هذا الهدم، ويزداد الضرر الناتج عن هدمه بصورة مطردة.
لذا يرى علماء البيئة أن اختفاء الدُّبال يعود إلى الكسر غير المعقول للغطاء النباتي؛ مما أدَّى إلى تلف الدُّبال خلال آلاف السنين التي ازدهرت فيها تلك الحضارات.
يقول لويس إمبرجر: إن مناطق الشرق الأوسط الآن صحاري بصور متفاوتة، لكنها صحاري كاذبة؛ أي إنها تصحَّرت؛ بسبب سوء الاستعمال بدرجات مختلفة خلال قرون عديدة.
وقد كشف أحد التحقيقات الأخيرة لمنظمة التغذية والزراعة الدولية عن بعض البلدان الفقيرة، كانت غنية بمواردها ومكتظة بالسكان، فاتجهت إلى زيادة عدد قطعان الماشية، ولكن هذه الزيادة فاقت زيادة السكان؛ مما أدى إلى الرعي الجائر الذي حصل بسبب الفقر.
وبينما تستمر أشكال تلف الدُّبال في الماضي بالازدياد، فقد أضاف حاضرنا أسباب تخريب جديدة، إضافة إلى أسباب، مثل: تلف الغابات والغطاء النباتي، وحرق المراعي، والتدفئة بروث الحيوانات، والرعي الجائر، وتعرية التربة، والحروب.
إن وسائل الضرر غالبًا ما تكون مستترة، وتحدث في البدء دون معرفة الفلاحين المرتبطين بالأرض ناسفة قواعدهم الراسخة منذ آلاف السنين.
ولا يقتصر هدم الدُّبال على الاقتصاد الزراعي فحسب، وإنما يتعداه إلى أمراض التربة والإنسان على جميع المستويات؛ بسبب العمليات الزراعية الصناعية التي تتجنَّب كلفة حفظ الدُّبال.
ومع فَقْدِ الدُّبال سيصبح الجميع مهددين، وسيضاف إلى خطر المجاعة خطر الميل إلى الانحطاط المتسارع للنوع البشري، وللعالم الحيّ؛ نتيجة تدهور نوعية الغذاء بالتصنيع الزراعي، والتلوث والنقص؛ مما يهدد الإنسان والتربة والكائنات الحية، وينذر بالخطر، وتتشارك الظواهر الاقتصادية والتقنيات؛ لتطبع على طرق الاستنزاف تسارعًا أشد خطورة.
لقد حان الوقت لإعادة الاعتبار إلى الدُّبال؛ ليأخذ بعده في تحسين الإنتاج الزراعي؛ حيث يلعب دور المهندس المعماري، وموفّر القدرة، والحارس الأمين، والعامل القوي في تنشيط الحياة النباتية، وهو المنظم الأساسي؛ إذ يرفد النبات بالغذاء اللازم.
إن دوره حيوي وكبير في مجال التغذية والإنماء الاقتصادي؛ فهو يعمل باستمرار، ويأخذ بُعده دون توقف كدولاب؛ حتى تتواصل مراحل النمو النباتي بانتظام.
فانعكاس مفهوم التلوث على الصحة يتيح لنا الفهم الكامل لدور الدُّبال، ليس في الاقتصاد الزراعي فحسب، بل وفي الاقتصاد العام.
إن نوعية الغذاء تنعكس على الصحة، وبالتالي على النشاط والسعادة والسرور، وعلى نفقات حفظ الشعوب وفعاليتها في العمل، وفي النهاية على ثمن المحاصيل الاستهلاكية.
وباختصار الدُّبال حارس أمين على الصحة والاقتصاد العام.
لندع تأثير الدُّبال على الاقتصاد جانبًا، ونرى العلاقة بين الإنسان والدُّبال، والإنسانية تستنير بيوم جديد، فإذا تتبعنا نتائج نوعية الغذاء على الصحة، نتحقق بأن تغيّر النوعية الغذائية لا يؤثر على الجسم وحده، بل يصل تأثيره إلى الحالة النفسية أيضًا.
ثم إن الحسابات التقريبية لنتائج الضياع الحقيقي للاقتصاد الناجم عن إهمال الدُّبال وصلت إلى حوالي 40% من ميزانية أي دولة.
ختامًا أقول:
ينبغي إعادة النظر بشكل جذري في الاقتصاد الحالي لأمم تدَّعي أنها متطورة!!
للتواصل : zrommany3@gmail.com
أ . د / زيد بن محمد الرماني ــــ المستشار الاقتصادي
وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية