أنت لست ذلك الكائن الحي النامي، ولا هذه الهيئة وتلك التقاطيع. أنت في الحقيقة ابن السماء لا ابن الأرض، وأصلك من العلاء لا من الحضيض. وما وجودك على سطح هذه الكرة إلا وجود ضيف عن قريب يرحل، ويرجع إلى الأرض التي فيها نشأ، ومن تربها نبت. فما بالك قد ادعيت التملك، وزعمت أنك كل شيء وأنت لا شيء، فأنت تحرجك البعوضة، ويقلقك الوهم، ويحرمك المنام البرغوث!!
أهكذا يكون شأن من يخال أنه على كل شيء قدير؟؟ إن هذا لأمر نكير!
ألست أنت الذي تأكل وتشرب، وتمرح وتلعب.
ألست الذي إن أصابك زكام، قلت غداً أشرب كأس الحمام؟؟
ألست الذي إن أصابتك مصيبة، ناديت بالويل والثبور، وعظام الأمور؟
ألست الذي إن لم يجد ما يأكل أو يشرب، خارت قواه وانحلت عزائمه، وعلم أنه ضعيف حقير؟؟
ألست الذي إن أصبح فقيراً معدماً، ذهب ما كان له من المقام الرفيع، وبلي ثوب كبريائه وعظمته، فالتجأ إلى من كانوا إليه يلتجئون، وطلب منهم الإحسان إليه، كما كانوا يطلبون؟؟
إذن فليس لك من الأمر شيء، وما أنت إلا كائن ضعيف فان، وكل ما في يدك عارة مستردة، فإياك أن تتصرف بها أو تدعي تملكها، فما هي إلا وديعة لديك، فأحسن القيام على ما استودعت، واحفظ كرامة المودع، وإلا انتزعها منك قسراً، وتركك حائراً بائراً، لا تلوي على شيء ولا يعطف عليك أحد..
إيه أيها الإنسان:
ما هذه الكبرياء التي تلبسها؟ وما تلك العظمة التي تتقمصها؟... على من تتكبر؟.. وعلام تتعاظم؟.. ألأجل أنك رب مال وفير، وعقار كثير، وخدمة وأثاث، وقصور ذات رياش؟؟
أنظر إلى من عليهم تتكبر، وفيهم تحتكم، هل هم إلا أناسي مثلك، يأكلون كما تأكل، ويمشون كما تمشي، لهم جسوم مثل جسمك، وأرواح مثل روحك، وربما فضلوك بعقولهم، وبزوك بآدابهم، وعلوك بأخلاقهم، وطاولوك بشهامتهم وطالوك بكبر نفوسهم، وصفاء سريرتهم، وفاقوك بحسن خبرتهم وطيب خبرهم! ولمثل ذلك فليعمل العاملون، وبمثله فليفتخر المفتخرون:
وما المال إلا عارة مستردة فهلا بفضلي كاثروني ومحتدي
المرء يا هذا ((مخبوء تحت طي لسانه لا تحت طيلسانه)) وهو قيد أعماله، لا قيد أمواله. فمن كرمت نفسه كرم عمله، ومن سفلت نفسه سفل عمله، وكل امرئ بما كسب رهين.
ماذا يفيدك أن لو حبيت حياة الملوك، وأنت غير مالك نفسك؟ بل ماذا تنتفع أمتك من وجودك، إذا كنت لا تحسن إليها؟ أتظن أن أموالك تزينك، وأن ملبسك يُعيلك، وحسن هيئتك تسميك؟ إنك إذن لمن المخطئين.
أتزعم أن الفقير ذا الخلق العظيم، أقل منك مقاماً وأدنى منزلة؟ إنك إذن لمن الظالمين.
قيمة المرء ما يحسن، فإياك أن ترجو المنزلة السامية في الدنيا، والمقام المحمود في الآخرة، إذا لم تخدم قومك، وتسع في إنجاح وطنك، فإنك إن سعيت وخدمت، تنبه بعد الخمول، وتحمد بعد الذم.