أتعلمون ؟
هنا أنفاسٌ ساحرةٌ تنبعث من تجاويف الجبال ، يسمعها القلب وتتلقفها المسامع وتطبق الأجفان على جمالها ، أنفاس لاينال منها الشح ولا تعترف بالوقت ولا يعتريها الجفاف ، هي منةٌ الرحمن وأعطيته ؛ تجتاح الأنفس العليلة فتشفيها وتتغلغل في أعماق الروح فتصيرها طاقةً مشعةً بالإسعاد والأنس .
الجمال هنا لايشبه إلا نفسه فأنَّى جالت مقلتاك فدونك البهاء والنقاء ، ولربما وأنت تجلس على إحدى تلك التلال سارحًا بخيالك في الملكوت ؛ تعتريك رعشة فتستفيق من سبات خيالك فتجدها نسمة لطيفة عبرتك إلى غيرك .
أيظن أحدكم أن ماسبق هو نسج من ذاكرة أنثوية تتخذ من وسادتها مستراحًا قبل النوم ؟
أم يظن آخر أنها أفكار عبثية تلهو بها طفلة في وحدتها ؟
أم قد ينأى أحدكم بفكره فيعتبرها جزيرة بكر ترتمي على بحور ذلك المحيط ؟
توقفوا عن الظنون وتعالوا الباحة ..
نعم هنا كل الظنون سترونها حقيقة وكل خيالاتكم ستعيشون واقعها ؛ ففي الباحة
غابة غناء تتمدد على حافة جبال السراة مطلة على تهامة ، أشجارها كثيفة تتخللها الطرقات وتسكنها هذه الأيام جموع من السائحين .. إنها غابة رغدان .
في الباحة منتزه الحسام لن أحدثكم عن تلقائية مدرجاته الخضراء ولا عن تراقص نوافيره الغناء ولا عن انبساطته أمام أشعة الشمس كل صباح ومساء ، لتسلوا معه النفس المنهكة عن متاعبها ، وتزهو روح المحب وتزهر العين بنعيم الجمال .
في الباحة فراشة .. نعم فراشة بسطت جناحيها على سفح إحدى جبال محافظة المندق متخليةً عن صفاتها ومتلبسة بالجمود فكانت حديقة الفراشة ، وديعة على قمة الجبل ومتجملة بكل زوارها الذين يعتادونها كل مساء.
وفي بلجرشي منتزه الوادي الذي يحتضن ضيف المنطقة القادم من الجنوب ويجلسه في كنفه حيث ظلال الأشجار اليانعة التي تتدلى على جلسات الجالسين ، عطفا على تلك الأرفف الخضراء التي تمتلىء بالمتنزهين حتى تفيض بهم حبا وهناءة ، تمامًا كالمتنزه الوطني في مدخل بلجرشي ذا الإطلالات الخلابة.
أما سوق السبت ببلجرشي وبجواره قصر مشرف التاريخي فهناك يُفتح لكم سِفرين : سِفر التأريخ الخالد وسِفر الحاضر الشاهد ، فمن شرفات القصر تستنشق الكادي والريحان وتلمح سيدات الزمان والمكان وهن يبعن التراث والآثار الأخاذة.
كيف لا نطرق أبواب التأريخ ؟؟
نعم إنها أبواب التأريخ تلك التي تُفتح على المتاحف التي تتسع معها رقعة الماضي التليد : فهنا متحف الأخوين وهناك متحف الفيان وليس ببعيد عن القلب والعين متاحف العايد والاطلال وآل موالا وابن مصبح والشملاني وغيرها .
أما قريتي الاطاولة والموسى الأثريتين فلا تأنس النفس إلا في رحابهما ، فالأصالة والمعاصرة تصحبان خطواتك عبر ساحاتها وشرفاتها ومزارعها وترتقي معك كلما ارتقيت لاسطحها الفسيحة.
اختزلوا من الزمن لحظات ، واستثنوا من أمتعتكم كلَّ عصري ، وادلفوا للمزارع السياحية بالباحة فدونكم : مزرعة الجسر النباتية ومزرعة الوالدين ومزرعة الزيتون ومزرعة بساتين اللوز ، فلن تعدموا المتعة ولن تُحرموا النقاء .
تعالوا نرتشف - مع الأحباب - القهوة العربية ببنها الشدوي وتمراتٍ من نخيل العقيق على ضفاف إحدى شلالات وادي الحمدة أو وادي القلت أو شلال أم الدقيق ، على إيقاع خرير الماء ونقاء منظره وصفاء انسيابه ؛ حينها يتجلى قول ابن برد :
والأذن تعشق قبل العين أحيانًا
ولن أحدثكم عن محافظة العقيق التي تستقبل ضيوف الباحة القادمين جوا بدلة القهوة وعذق البلح وحزمة الكادي والمحيا الباسم ، ثم تفتح كلتا ذراعيها لتريكم حدائقها الفسيحة الغناء ، وإسطبل خيولها الصهيلة ، ونخيلها الباسق ، وعند خروجكم منها تودعكم حديقة طيبة الاسم تلك الحديقة التي تجسد ارتماءة المحبوبة في طريق محبوبها متوسلة له أن يطيل البقاء .
أما سدود الباحة ووديانها فهي كقيعان براقة تتناثر على أديم الباحة ممتعة النظر ومحررة النفس من أدران اعتلالاتها وأزماتها ، ولن أسهو عن وردة الباحة الربيعية " تهامة" التي تغفو قرية ذي عين على إحدى تلالها المحلاة بالمرو وأمامها جنتان مدهامتان تنتج الموز والكادي ؛ بيد أن وردة الباحة لاتتفتح الا عندما يرخي الربيع ثيابه على سراة الباحة ؛ فالباحة تجمع السياحة في كل الفصول .
هذه الباحة بل هذه إطلالةٌ على الباحة ، فالباحة رقعةٌ من أرض بلادي عبَر منها التأريخ ، وعبرت هي بحقبةٍ من التأريخ .. الباحة الإنسان الذي عشق أرضه فعشقته.. الباحة هي النقوش.. هي الرسوم والكهوف والحقول .. هي الفنون والقصائد والقصص .. هي الخيمة والغيمة والمطر .. هي الرمال والجبال والجلال وشُمّ الرجال .. هي النساء الماجدات الخالدات .. هي الطفولة المترعة بالجمال .. هي الدِلال الدفاقة والموائد البراقة والمجالس العامرة .. هي المصاريع المنقوشة والمرازح المسقوفة والفوانيس الوضاءة .. الباحة هي الماضي التليد والحاضر الجديد والمستقبل السعيد .. الباحة هي في سمو الإمارة وإمارة السمو .. الباحة هي سمو الامير الحُسام .
قلم / توفيق محمد غنام