تبني اللغة العربية أعمدتها على قواعد راسخة. ضاربة بجذورها في الحضارة الانسانية لقرون طويلة، وهي مفتاح ثقافة واسعة، وإرث كبير له امتداد معرفي وجغرافي مترامي. تعكس اللغة العربية لنا جميعا العمق والقوة والخصوصية، وسط الأمم الأخرى، وهي اليوم لغة عالمية، اختارها الله سبحانه وتعالى لتكون لغة كتابه، ولتحمل رسالته الخالدة للناس جميعا إلى يوم القيامة، ومن فرط فيها فالقرٱن يحفظها، والله خير الحافظين وتتحدثها اليوم أكثر من ٢٢ دولة كلغة رسمية. ناهيك عن الملايين من شعوب الأرض الذين قادهم كتاب الله، ودين الاسلام لتعلمها، وفهم معانيها، ومترادفاتها، وطربت ٱذانهم بمحسناتها اللفظية.
وما ساقني في هذا المقال هو ما أجده احيانا في بعض المؤتمرات في داخل وطننا من استخدام لغة أخرى الانجليزية مثلاً للحديث والنقاش حتى مع بعضنا، وكأن هناك ميل من المتحدثين لجعل الانجليزية اللغة الرسمية لذلك المؤتمر، دون ضرورة ملحة تدفع بالمتحدث ليتخلى عن لغته الأم.
وعندما ننظر في الدول الاخرى نجد أن كل البلدان تعتز بلغتها، ونحن كذلك، ولمعرفتي بفرنسا ادركت منذ وقت طويل اعتزازهم الكبير بلغتهم، وحرصهم على نشرها. والفرنسي يكاد لايتحدث معك، إلا بلغته رغم معرفته بالانجليزية كلغة عالمية. المسالة لديهم مبدأ.
والمملكة ولله الحمد دولة ذات حضور عالمي اليوم، ولها ثقلها وتأثيرها وقوتها في المحافل الدولية. ورسالتها تصل بلغتها الأم، لأن اللغة تمثًل الهوية الجغرافية والتاريخية والثقافية.
إن الاعتزاز باللغة العربية في حديثنا وكتابتنا ومؤتمراتنا لايمنع ان نتعلم كل لغات العالم، وأن ننهل من كل العلوم، وان نستفيد ثقافيا منها. فتستنير عقولنا بما علمنا سابقا ومانتعلمه اليوم. وبين هذا وذاك نجمع العلم والثقافة ونواكب تطور الأمم. ونساهم بثقافتنا في تعزيز المعرفة العالمية ونستمر كرافد وصانع في المد الحضاري العالمي، وليس مستهلكا فقط لها.
من يترك لغته الام ليعبر عما في نفسه باستخدام لغة اخرى دون حاجة ملحة تدفعه إلى ذلك، فإنما هو يعيش حالة من حالات "الإنهزام الثقافي"، امام اعداء كُثر متربصون. يستخدمون الحرب الناعمة، لتُفتح لهم القلوب والعقول قبل الحدود، ولا تتغير قناعات الناس، الا عبر الربط المعرفي والغزو الثقافي.
الدول اليوم تضع مئات الجنود والاسلاك الشائكة على حدودها لتحمي أراضيها من الغزاة الطامعين، والأمر نفسه تقاتل كل الدول لتحمي جبهتها الداخلية ومواطنيها من دعاية العدو لنفسه، حتى لاتسقط القلوب قبل اسوار الحدود.
فإذا الجنود يسهرون على الحدود فما الضير أن تسهر ضمائر الناس على لغتهم وثقافتهم، وكل الدول تدافع عن عقول أبناءها من غرس ثقافي يأتي من خارج حدودها تسترق لصوته النفوس، فتضعف معه الهمم. وهي احد ابرز اساليب الحرب النفسية، التي لاتخفى على أحد.
الذين يدافعون عن لغتهم الأم في كل بلدان العالم ليسوا منغلقين، وإنما يدركون ان اللغة باب الثقافة ومن وصل لقلوب الناس وصل لقلب المدينة.
المؤتمرات التي تعقد بالداخل أولى أن نتحدث فيها بلغتنا العربية كهوية ورسالة تعكس ثقتنا واعتزازنا، وهناك مترجمين لمن لايتحدث بها. المسالة هنا ليس تقوقع بل هي مبدأ يقوم على ثقتنا بقدرة اللغة العربية على حمل افكارنا والتعبير الكامل عما نريد. ندرك عمقها المعرفي وسعتها اللغوية لتتسع للعلوم كلها، لتكون الأجدر لتحمل رسائلنا بكل دقة ووضوح للعالم، ومجامع اللغة العربية لاتألو جهداً لتواكب لغتنا كل مستجدات العصر، من مفاهيم ومخترعات، وتدريس العلوم العصرية باللغة العربية. وقد ثبت نجاحها، وشرح هذا امر يطول سرده ليس المقال هنا ساحته.
مسألة الوعي تبدأ بكلمة، وقد من الله علينا في هذا البلد الأمين بقيادة راشدة وهبها الله الحكم والحلم فسارت كما أراد ربنا، ولدينا شعب عظيم بات يعي ما يدور حوله من حروب وفتن وطامعين، لايمنعهم عنا إلا الله، ثم عزيمتنا والتفافنا حول قيادتنا. ومن يدرك الحرب لايترك ثغرة لعدوه. وثقتنا بتوفيق الله وأمنه لنا، ثم ثقتنا بحكمة رجالات هذا الوطن الغالي، ثم نراهن على وعي شعب طويق العظيم الذي يدرك أن اللغة حصن حصين لمن أراد، وباب واسع يطرق الاذن حتى يصل للعقول، والعقول مستودع القناعات.
ولسمو الامير خالد الفيصل، كلمة خالدة في هذا يقول حفظه الله تعالى : "ليس المثقف من تتحدث معه، ويكون الرد بإستخدام كلمات إنجليزية على سبيل المثال OK ولا تمت للثقافة بصلة بل تجعلك ناقص".
يدرك سمو الامير أن التفريط في استخدام كلمة واحدة (ok), يفتح وراءه باب لايغلقه إلا الوعي والإدارك، فاستخدام كلمة واحدة اليوم يتبعه أكثر وقتل متسلسل للغة العربية. وهذه لاتعكس ادراك المثقف لثقافته, ولا تعكس بالتالي اعتزازة بلغته العربية التي أجلّ مايميزها هو المترادفات الدقيقة المعاني.
وليس هناك أضر على الدول من الجهل إذا سرى بين الناس.
أمة الضاد كبيرة ومايضيرنا سقوط البعض دون إدراك لهذا الأمر في استخدامه للغات الأخرى ليعبر نفسه، دون ضرورة. وماقد يعتقده شكلاً من الثقافة، يفاخر به امام من يستمع له، هو في حقيقة الأمر اعتراف بجهله بلغته وإعلان بالهزيمة النفسية أمام ثقافة أخرى، ليس له منها إلا المعرفة فقط، لأنه مهما تغير لسانه فلن يتغير لونه وشكله وانتماءه لوطنه وجغرافية أرضه.
ولكن سيبقى القليل قليل، والواجب اليوم هو ان ندرك أكثر أن قوتنا تتشكل من إدراكنا ووعينا وثقافتنا وعلمنا وولاءنا وطاعتنا لولاة أمرنا، هذا الإيمان الراسخ ننطلق لنقول للعالم نحن هنا بلغتنا نكتب معكم العلم والميراث الحضاري للعصور القادمة. نكتبه بلغتنا العربية مثلما يكتب غيرنا بلغتهم، ونحن لسنا اقل منهم علماً وطموحا.
نحن أمة، لنا تاريخ عظيم، وحاضر مشرق، ومستقبل واعد. والاعتزاز بثقافتنا ولغتنا مطلب وطني ننطلق فيه من مجالسنا ومحاضراتنا وندواتنا وكل مكان نمثل فيه وطننا الغالي.
وقد قالها حافظ ابراهيم يصف قوة اللغة العربية وقدرتها لتنهض مع التطور، وتحيا مع العصور:
أَنا البَحرُ في أَحشائِهِ الدُرُّ كامِنٌ
فَهَل سَأَلوا الغَوّاصَ عَن صَدَفاتي
فَيا وَيحَكُم أَبلى وَتَبلى مَحاسِني
وَمِنكُم وَإِن عَزَّ الدَواءُ أَساتي
عبدالعزيز بن رازن.