تناظر الفقراء والأغنياء، فقال الفقراء:
نحن أفضل منكم فإن محمداً صلى الله عليه وسلم اختار الفقر على الغنى وقال الأغنياء: بل نحن أفضل منكم فإن الغنى صفة الرب والله الغني وأنتم الفقراء، قال الفقراء: نحن أفضل فإن حسابنا أقل ومن قلَّ شيؤه قلَّ حسابه ومن كثر شيؤه كثر حسابه، ومن طال حسابه، طال عذابه، ومن نوقش الحساب عذب، على قدر جرم الفيل تبنى قوائمه، وقال الأغنياء بل نحن أفضل لأن صداقاتنا وزكواتنا أكثر فيكون ثوابنا أكثر.
قال الفقراء: يموت أحدنا وحاجته في صدره ولم تقض، ويموت أحدكم وقد قضى منها وطراً، فكيف يستويان؟ يقال لكم أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا، قال الأغنياء: لا تتهيأ لكم شرائع الإسلام والإيمان، فلا تحجون ولا تزكون ولنا فضول أموال نحج ونزكي ونغزو والحسنة بعشر أمثالها، فويل لمن غلبت آحاده عشراته، فنحن أفضل منكم.
فقال الفقراء: إذا لم يجب علينا لا نطالب بقضائها وأدائها، وأما أنتم فتسألون عن كل ذرة وحبة حرفاً حرفاً وتحاسبون ألفاً ألفاً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه وعن علمه ماذا عمل به وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه)) فنحن أفضل منكم. فقال الأغنياء: نحن أفضل منكم، نشتري بالمال الأسرى ونتصدق على المساكين ونسر المسلمين والمال سبب إدخال السرور على الأخ المؤمن، قال الفقراء: إن كنتم اكتسبتم بها الأجر والثواب وإدخال السرور فإنا قد استفدنا بالفقر الراحة والقناعة وقلة الهم والغم فإن الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن، والرغبة في الدنيا تكثر الهم والحزن.
قال الأغنياء: المال عدة الزمان وعدة الإنسان والغنى قرة العين، به يتقرب العبد إلى طاعة الله تعالى والنفس إذا أحرزت قوتها اطمأنت وأما الفقير فحي كميت لا عيش له ولا قرار، قال الفقراء: عرفتم شيئاً وغابت عنكم أشياء، فإن المال سبب الحرص والحسد والكيد والعجب والفتنة والخصومة، وأهل الدنيا يتقاتلون عليها ويتناحرون، وهذه الآفات بمنزلة العقارب والحيات، فمن سلم من الحيات لدغته العقارب وأما الفقراء فلا حرص ولا حسد ولا كبر ولا عجب طرحوا وفرحوا.
قال الأغنياء: أخطأتم شتان بين من قدر فترك، وبين من لا يقدر فيعجز، فأنتم أصحاب العجز ونحن أصحاب القدرة، فكيف يتفقان؟ إنا وجدنا الأموال واشترينا بها الجنان والثواب وعجزتم عن ذلك، فانظروا إلى هذا البيان والبرهان، قال الفقراء: المال روح الدنيا والدنيا يبغضها الله، أما الفقر فهو غنى والغنى يحبه الله، قال الأغنياء: تأملون ما تقولون فخلق المال من حكمة الله وتخصيص المال من كرامة الله تعالى.
قال الفقراء: إن فرعون كان من الأغنياء المسرفين فهو عند الله من الكافرين، وكم من كافر منعم عليه وكم من مؤمن مقتر عليه. قال الأغنياء: هذا القياس ينتقض ولا يصح إلا بقياس، فإن سليمان كان من المرسلين وقد ملك الدنيا سنين، وهذا داود كان له ثلاثة وثلاثون ألف حارس وكراسي من ذهب وفضة وهذا عثمان وعبدالرحمن وغيرهما.
قال الفقراء: القياس صحيح، فإن المال كان لهم ولم يكونوا هم للأموال، فشتان بين من يكون للمال وبين من يملك المال. قال الأغنياء: أهل الجنة أغنياء فرحون وإنهم أطيب عيشاً وأعدل حالاً، وأهل النار فقراء مغمومون، فنحن أفضل، قال الفقراء: أمسكوا، فإنه آلة المعصية ما أطغى وما أبغى، ولم يتبع الهوى إلا كل ذي مال وأما الفقراء فحسبهم الخمول والسكون يطيعون ربهم شاؤوا أم أبوا.
قال الأغنياء: غلطتم فإن التقوى مركوزة في طباع المرء! فقر أو استغنى، قال الفقراء: أتسلمون لنا أن قلب المرء مع ماله، فالغني قط لا يحب الموت ويكره مفارقة الدنيا، وأما الفقير فلم ير خيراً إلا من ربه فيقوم عليه كالغائب، غداً نلقى الأحبة محمداً وحزبه، والفقير قلبه إلى ربه فشتان بين من يميل إلى ربه وبين من يميل إلى الدنيا.
فلما أورد على الأغنياء هذه الحجة كادوا أن يتقطعوا، فقالوا: لا نسلم، هذه هواجس وترهات دسائس. وقال الأغنياء: بل الغنى صفة الرب والله الغني، ونحن أفضل، فصاحوا وتهارشوا. فتحاكوا إلى قاضي العقل، فنظر واعتبر وطول وهول، ثم قال: قد تحيرت فيما بينكم. إن قلت: الفقر أفضل: ينادي منادي ((كاد الفقر أن يكون كفراً)). وإن قلت: الغنى أفضل: سمعت القرآن الكريم يقول: ﴿ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [الأنفال: 28].
هذه مناظرة اقتصادية جرت بين فريق الفقراء وفريق الأغنياء، ولا شك أن لكل فريق مزاياه وخصائصه، مما يصعب معه تمييز أو تمايز فريق دون فريق أو تفضيل هذا على هذا، وفي كل خير.
أ . د / زيد بن محمد الرماني ــــ المستشار الاقتصادي
وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية