فيما يعاني قطاع غزة من نقص الوقود والاحتياجات الانسانية الأخرى بسبب الحرب الضروس والأزمة الغذائية الحادة والحصار المطبق الذي تفرضه اسرائيل على القطاع منذ السابع من اكتوبر تشرين أول الماضي, قالت وسائل اعلام اسرائيلية خلال الأيام القليلة الماضية ان تل ابيب ستنظر في ادخال الوقود الى القطاع المحاصر في حال تم عرض صفقة جدّية لإطلاق عدد كبير من المحتجزين لدى حركة حماس شريطة أن يكون عدد المُفرج عنهم كبيرا وليس بشكل تدريجي كما ذكر المصدر, بمعنى أن تسمح اسرائيل بدخول الوقود مقابل الافراج عن اليهود المحتجزين لدى كتائب القسّام.
وبهذا التصريح نتذكّر برنامج النفط مقابل الغذاء الذي فرضته الأمم المتحدة بضغط من الولايات المتحدة الأمريكية عام 1995 عندما تفشّت في العراق أزمة غذائية حادة في اعقاب الغزو العراقي لدولة الكويت الشقيقة عام 1991 ما جعل الأمم المتحدة تسمح للعراق بتصدير جزء من نفطه في استثناء مؤقت للعقوبات المفروضة عليه في أغسطس آب من عام 1990 بسبب غزوه للكويت.
ولتعريف القرّاء بمفهوم برنامج " النفط مقابل الغذاء", فهو برنامج الأمم المتحدة, الصادر بموجب قرار مجلس الأمن الدولي رقم 986, لعام 1995, المسمّى برنامج النفط مقابل الغذاءOil for Food Program وهو برنامج يسمح للعراق, وفقا للمصادر الاعلامية, بتصدير جزء من نفطه ليستفيد من عائداته في شراء الاحتياجات الانسانية لشعبه, تحت اشراف الأمم المتحدة الأمر الذي يثير التساؤل حول ما اذا كانت الدول الغربية التي تنادي دائماً باحترام حقوق الانسان تطلب ثمناً مقابل احتياجات المدنيين من الخدمات الانسانية الأساسية كالماء وحليب الأطفال والدواء والغذاء!
تقول المصادر أنه تم وضع هذا البرنامج حينما ساور مجلس الأمن القلق ازاء استمرار معاناة السكان المدنيين من الشعب العراقي, نتيجة العقوبات الأمريكية الشاملة التي فُرضت على العراق في أغسطس آب 1990 في أعقاب غزوه للكويت. لهذا أصدر مجلس الأمن في ابريل نيسان 1995 القرار 986 الذي يتضمن صيغة النفط مقابل الغذاء, بصفتها تدبيرا مؤقتاً الى أن ينفذ العراق القرارات ذات الصلة, بما في ذلك القرار 687 (1991), المؤرخ في 3 أبريل نيسان من عام 1991
ولذلك فان "الوقود مقابل الافراج عن اليهود" لا يختلف في مضمونه عن برنامج " النفط مقابل الغذاء" من حيث التشابه بين مقايضة نفط العراق بالغذاء والدواء, بمقايضة وقود اسرائيل بأسرى يهود لدى حركة حماس الفلسطينية. فالقاسم المشترك بين البرنامجين الأول والثاني هو فرض العقوبات وتشديدها كمرحلة أولى, ثم المساومة في مرحلة ثانية برفع العقوبات مقابل أن يدفع الطرف المُعاقب ثمناً باهضاً لتخفيف آثار الأزمة الاقتصادية على المجتمع الذي يئنُّ تحت وطأة الحصار والدمار والتجويع.
من خلال هذه المعطيات البسيطة عن برنامج النفط مقابل الغذاء نجد أن اسرائيل تنتهج نفس السياسة التي انتهجتها الولايات المتحدة الأمريكية مع الدول التي احتلتها سابقا بذرائع واهية وشعارات زائفة كما ذكرت في مقال سابق بعنوان " معركة الموصل و شعار الحرب على الارهاب", اذ كانت أمريكا فرضت سياسة التجويع و منع التصدير على العراق حتى استفحلت أزمة الغذاء والدواء وأصبح من البديهي آنذاك أن تقدم أمريكا الاحتياجات الانسانية العاجلة على طبق من ذهب مقابل ما لدى العراق من مخزونات نفطية.
واليوم يتكرر سيناريو العقوبات الأمريكية على العراق في قطاع غزة الذي عانى و يعاني من تشديد الحصار وعدم السماح لوكالات الأمم المتحدة بإدخال شحنات المساعدات الانسانية حتى ضاق الشعب الفلسطيني في غزة ذرعاً بتداعيات هذه الحرب اللعينة, اذ لا يُسمح له بأن يتوفر ما يكفي من الماء والدواء والكهرباء والوقود والمستلزمات الطبية الا في مرحلة تالية تشترط فيها اسرائيل رفعاً جزئياً من العقوبات مقابل اطلاق الأسرى والرهائن.
من هنا نلاحظ أن اسرائيل تقدّم عرض الوقود على غزة و تطالب في المقابل بإعادة الأسرى في قبضة حركة المقاومة التي غامر أفرادها بحياتهم لاجتياز الحدود مع المحتل, وخوض غمار المعركة لخطف مجموعات يهودية من مستوطنات غلاف غزة على أمل المطالبة لاحقا بمبادلة المحتلين بأسرى فلسطينيون في سجون الاحتلال, غير أن اسرائيل وحلفاءها الغربيون فرضوا حصاراً شديداً على القطاع و أمطروه بوابل من القذائف الصاروخية والقنابل الفسفورية لمقايضة حماس لاحقا بالوقود مقابل اليهود, الأمر الذي يجعل الانسان العربي يتذكّر المثل العربي القديم " وكأنك يا أبا زيد ما غزيت", اذ عندما تطلق حماس الأسرى مقابل الرهائن اليهود, فإنها بالتالي لم تكن سلمت من الدمار والهلاك, ولم تتمكّن من الوصول الى مرحلة تفاوضية بشأن تبادل الأسرى مع جيش الاحتلال للإفراج عن عناصرها في المعتقلات الاسرائيلية, كما ولم تتمكن من دحر العدو الذي قصف كل المعابر والمستشفيات و الممرّات الانسانية وبالتالي نستطيع أن نقول باللهجة المحلية في حال قبول حماس بالوقود مقابل اليهود: " كأنك يا بو زيد ما غزيت".
ووفقا لبرنامج النفط مقابل الغذاء أو عرض " الوقود مقابل اليهود", فاني أرى لو أن كتائب القسّام احتفظت بالرهينتين السابقتين, " الأم وابنتها " وكذلك المرأة المُسنّة, ولم تطلق سراح أي منهن وتسليمهن للصليب الأحمر بوساطة قطرية دون أي مقابل, ذلك أنه كان بإمكان حماس أن تشترط اطلاق 1000 أسير فلسطيني مقابل هؤلاء النسوة طالما يتمسّك العدو الاسرائيلي بمبدأ " لا وقود, ولا ماء, ولا كهرباء" قبل تسليم الأسرى و القضاء على حركة حماس وكل فصائل المقاومة التي تنتمي لها.
بالرغم أن فكرة العقوبات هي من أكثر ما يتسم به العنصر البشري على مرّ العصور كما أوضحت في مقال سابق بعنوان " أزلية فرض العقوبات في فكر المخلوقات", لكنها فكرة لم تكن مستخدمة في العصور الماضية بنفس القدر الذي استخدمت به في العصر الحديث, اذ نجد أن العقوبات لم تكن معروفة في الحروب الصليبية والفتوحات الاسلامية, ولا حتى في العصر الذي اندلعت خلاله حرب البسوس, وحرب الأيام الستة وغيرها من الحروب.
أما اليوم فان أمريكا وحلفاءها قد فرضوا سياسة العقوبات في كل الحروب التي خاضوها في فيتنام والعراق و اوكرانيا و روسيا وسوريا وغيرها من بلدان العالم دونما اعتبار للاحتياجات الانسانية الخاصة بالمدنيين, وذلك لأجل استخدام هذه العقوبات كورقة ضغط بهدف الحصول على تنازلات من الأطراف الأخرى المشاركة في النزاع مع الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها و من ضمنهم اسرائيل التي تستخدم اليوم ورقة الوقود للضغط على فصائل المقاومة من أجل اطلاق الرهائن و احباط محاولات التقدم في العمق الاسرائيلي لاستعادة الأرض العربية المحتلة.