خطب وأم المصلين في المسجد النبوي فضيلة الشيخ الدكتور عبدالمحسن بن محمد القاسم إمام وخطيب المسجد النبوي الشريف.
وبعد أن حمد الله تعالى بدأ خطبته بقوله: أيها المسلمون: حقيقة العبودية لله تنشأ من غاية الحب له مع غاية التذلل، والعلم بأسماء الله تعالى وصفاته أصل العلوم وأشرفها، فهو العلم الذي يقوم عليه توحيد الرب سبحانه وعبادته، وأعظم حاجة للأرواح معرفة بارئها وفاطرها، ولا سبيل إلى هذا إلا بمعرفة أوصافه واسمائه، وبقدر معرفة العبد بأسماء الله تعالى وصفاته يكون حظه من العبودية لربه والأنس به ومحبته، وإجلاله وتعظيمه، وكلما ازداد العبد معرفة بأسماء الله وصفاته، ازداد إيمانه وقوي يقينه.
وأكمل: والله ينزل العبد من نفسه حيث ينزله العبد من نفسه؛ وأسماء الرب تعالى كلها أسماء مدح؛ وقد وصفها الله سبحانه بأنها حسنى كلها؛ لدلالتها على أوصاف الكمال، ومن أسمائه سبحانه «الكبير»؛ فهو الكبير في ذاته واسمائه وصفاته، الموصوف بالجلال والكبرياء،
وتحقيق أن الله أكبر من كل شيء؛ لا تبقي لمخلوق ربانية سوى ربانية الله، فلا يستحق العبادة أحد سواه، قال سبحانه: (ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ).
وأضاف فضيلته: والمخلوقات لا يحصي عددها، ولا يدرك علومها وحقائقها غائبها وشاهدها، ولا يحيط بها إلا الكبير سبحانه، والله تعالى موصوف بالكلام، وكلامه موصوف بالجلال والعظمة، قال
النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله، كانه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم، قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق، وهو العلي الكبير».
وبيّن: وربنا له الكبرياء والعظمة، حاكم في خلقه، عادل بينهم: فالحكم لله العلي الكبير، قال شيخ الإسلام رحمه الله: «في قوله: الله أكبر؛ إثبات عظمته فإن الكبرياء يتضمن العظمة ولكن الكبرياء أكمل، وامر الله عباده أن يكبروه تكبيراً؛ تبرئة له من كل نقص وعيب نسب إليه.
وأكمل فضيلته: وعبادات أهل السماوات والأرض كلها المقصود منها تكبيره وتعظيمه، وإجلاله وإكرامه، ولهذا كان التكبير شعاراً للعبادات الكبار، فالتكبير في الصلاة ذل وانكسار بين يدي كبرياء الله وعظمته، فتكبيرات الصلاة في اليوم – من الأذان إلى الفراغ من الذكر في الصلوات الخمس وسننها الراتبة – أربع مئة وإحدى وأربعون تكبيرة، فالدعاء إليها تكبير وبه يختم، والإقامة مثل ذلك، وتحريمها والانتقال بين أركانها تكبير، وبعد انقضاء الصلاة تسبيح وتحميد وتكبير.
وأوضح: الهداية نعمة عظيمة تستحق الشكر، وشكرها بالتكبير كما في ختام الصيام؛ والحج من أعلام الدين الظاهرة، شعاره التوحيد وتعظيم الله بالتكبير على الصفا والمروة، وعند رمي الجمار. وأعظم الأيام عند الله يستحب فيها الإكثار من التكبير، ويسن التكبير في الأفراح؛ كالعيدين، وعند المسرات وسماع البشارات، ويشرع عند رؤية آية من آيات الله كالكسوف، وعند التعجب وكل أمر مهول؛ والمسلم يأوي إلى فراشه مسلماً نفسه لله مسبحاً محمداً مكبراً، ومن دعته نفسه إلى ظلم ضعيف من زوجة وغيرها؛ فليتذكر أن الله أكبر منه، والتكبير مشروع في المواطن الكبار، والمواضع العظام، قال شيخ الإسلام رحمه الله: «شرع التكبير على الهداية والرزق والنصر؛ لأن هذه الثلاث أكبر ما يطلبه العبد وهي جماع مصالحه».
وبيّن: و «الله أكبر» كلمة عظيمة أمر الله بها؛ ليستولي كبرياؤه في القلوب، وثوابها جزيل، وبها تنال الدرجات العلا، وهي من الكلمات التي يحبها الله؛ وبالتكبير والتحميد والتسبيح تفتح أبواب السماء؛ عن ابن عمر رضي الله عنه قال: بينما نحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال رجل من القوم: الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من القائلُ كلمة كذا وكذا؟» قال رجل من القوم: أنا، يا رسول الله. قال: «عجبتُ لها، فتحت لها أبواب السماء»؛ وقال صلى الله عليه وسلم (بخ بخ لخمس ما أثقلهن في الميزان : لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله ، والله أكبر،…).
وأكمل فضيلته: فالله هو الكبير الأكبر، وله الكبرياء في قلوب أهل السماء والأرض، وكبرياؤه أمر تعجز العقول عن إدراك حقيقته، أو تصوره، أو معرفة كيفيته، وكل ما يخطر بنفوس العباد من التعظيم فالله أكبر منه، والمؤمن يتوكل على الرب الكبير، ويفوض أموره إليه، ويدعوه وحده ويتعلق به.
واختتم الخطبة بقوله: لا سعادة للعباد، ولا صلاح لهم، ولا نعيم إلا بأن يعرفوا ربهم ويكون وحده غاية مطلوبهم، والتعرف إليه قرة عيونهم، والكبرياء من خصائص الربوبية، وتوعد الله من اتصف به من الخلق؛ قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّهِ ﷺ: قَالَ اللَّه عزَّ وجلَّ: (العِزُّ إِزاري، والكِبْرياءُ رِدَائِي، فَمَنْ يُنَازعُني في واحدٍ منهُما فقَدْ عذَّبتُه) رواه مسلم.
فليحذر العبد من العلو في الأرض، والتكبر على الخلق، والتعاظم عليهم وظلمهم.