المدينة للإنسان أم الإنسان للمدينة ؟ لربما راود هذا التساؤل أناسًا كثير عبر الأزمان ، فمنذ الفلسفة الأفلاطونية للمدينة ، مرورًا بابن خلدون ومقدمته ، وصولًا إلى المفاهيميةِ الهندسية الحديثة ؛ تَيقنٌ تام بأن المدينة خلقها الإنسان لتكون له .
دعونا نعود للوراء كثيرًا وتحديدًا لحالة الإنصهار التي شكلها أجدادنا مع مدنهم ، فالأفنية والطرقات والأسواق جزءًا من حياتهم اليومية ، لا تنفكُّ بحالٍ عنها ، وشاهدُ الحال أنَّ أبواب منازلهم الطينية والحجرية تظل مفتوحةً أو متاحةً طوال اليوم ، ولذا فهم قد طوعوا المدينة بكل مواردها لهم ، فنعموا بالحياة المدنية وهم في حضرة القرية.
ولو عدنا للوراء قليلًا إلى طفولتنا التي لم تعرف من المنازل سوى الطعام والنوم ، فطوال اليوم نحن في الفناء الكبير لبيتنا ، أو في بيوت جيراننا من أعمامنا وغيرهم ، ومع أبناء وبنات أعمامنا نلهو ونلعب ، ونتمرد ونشاكس ، ونتعارك ونتصالح ، ونتحالف ونستقل ، وننتصر ونُهزَم ، نسلو مع الوقت ونستمتع به ، وعندما تلهبنا أشعة الشمس ؛ نلوذ بمنازلنا ولأمهاتنا ، ليطعمونا من وجبة الغداء ، أو لنلتهم من أرفف الثلاجات أو المطابخ ماتبقى من وجبة الإفطار ، وهكذا معظم الناس في ذلك الوقت.
إن اندفاع الناس اليوم إلى الحدائق والمتنزهات والميادين والشوارع ؛ هو ضربٌ من ضروب الرفض لصياغةٍ هندسيةٍ لمنازلنا ، صيرتها كصناديق مغلقة ، فلا أفنية ولا شرفات ولا مساحات كافية للحركة في حيز المنزل ، مما حدا برؤية المملكة العربية السعودية ٢٠٣٠ ، وتحت إشراف قيادتنا الحكيمة ؛ أن تصوغ برنامج جودة الحياة كأحد مفردات صياغة مفهوم ( أنسنة المدن) ، فاليوم باتت الأمانات أمام خيارٍ أوحد وهو استيعاب التدفق البشري نحو فضاء المدينة .
دعونا نستعيد تجربتنا النفسية مع جائحة كورونا ، وكيف أن الحجر المنزلي أذكى لدينا حلولًا ترفيهية في غرفنا الصغيرة وممراتنا الضيقة ، نتمرد من خلالها على حالة الحجر النفسي التي أحدثتها الجائحة ، والسؤال هنا : ماذا لو كانت منازلنا مُعدةً لنا هل كنا بحاجةٍ للتمرد على واقعنا أو الاندفاع للخارج ؟ بالطبع لا .
إذن فالمدينة التي يخلقها الإنسان لنفسه هي المدينة التي تظلُّ وفيةً له وقت الحاجة وعلى الدوام ، تمامًا كالبيت الذي يجتهد فيه الإنسان ليصنعه لنفسه ، يجده يومًا ما بارًا به موافيًا لحاجاته .
إنني أقترح أن نرسم هندسيًا المدينة البيضاء التي أخالها خاليةً من الملوثات البيئية ، ومنازلها وشوارعها وميادينها فسيحة ، وسكانها معافون من الأدواء الجسدية والنفسية ، ومواردها البشرية والزراعية والاقتصادية ذاتية ، وأهلها طيبون .