أمّ المسلمين اليوم لصلاة الجمعة في المسجد الحرام معالي الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس إمام وخطيب المسجد الحرام، واستهل معاليه خطبته الأولى قائلاً: خير ما يُوصَى به، تقوى الله عَزّ َوجل، فاتَّقوه رحمكم الله ؛ فتقواه سبحانه خير الزّاد في المعاش والمعاد، وأعظم المطالب وأسنى المراتب، وأعلى المناقب، ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾.
معاشر المؤمنين: القِيَمُ المُزْهِرَة، والشِّيَم الأخَّاذةِ المُبْهِرَة، هي التي أعْتَقَتِ الإنْسَان مِنْ طَيْشِهِ وغُروره، إلى مَدَارَاتِ الحَقِّ ونُورِه، ومِن أَوْهَاقِ جَهْلِهِ وشروره، إلى عَلْيَاءِ زكَائِهِ وحُبُورِه، وقيمنا الإسلامية خاصة هي التي انتشلت الإنسانيّة جمعاء من أَوْهَاق البَغْضَاءِ والشَّحْناء، إلى مَرَاسِي التّوَافُق والصَّفاء والسِّلم والوفاء. قال تعالى : ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ﴾.
القيم الدينية:
هي البَلْسَمُ الشَّافِـي لِكُلِّ عويصَةٍ
أعْيَتْ مَخَاطِرُها عُقُولَ أباتها
الله قدْ فَطر النُّفوس على الهُدَى
وأنَار بالإِسـلام دَرْبَ هُدَاتِها
﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾.
وأعلى هذه القيم؛ الإيمان الخالص، والتوحيد الصافي ﴿ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾. ثم الاتباع الكافي ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾.
وأضاف معاليه: لقد اقتضت حكمة المولى جل جلاله أن يكون صاحب الرسالة الإسلامية الخاتمة ، إمام الأنبياء، وسيد الحنفاء، محمد بن عبدالله، صلوات الله وسلامه عليه، وأحبته إن لم يصحبوا نَفْسَهُ أنفاسه صَحِبُوا؛ حُبٌ متين، واتباع مكين لا ابتداع قمين.
هَاتِ الحديثَ مِزاجُه أشواقُ
وَصِفِ الحبيبَ فَكُلُّـنا تـوَّاقُ
عَنْ قلبه عن حُبِّه عن لُطـفِه
عن كلِّ ما قد جادت الأخلاقُ
طوبى لمن عن نهجه لم يَغفُلوا
يوما وذاقـوا في حبه ما ذاقُوا
ثم بيّن معالي الشيخ السديس شمائل النبي ﷺ فقد حملت شمائلُهُ الخيرَ كُلَّه، والبِرَّ دِقَّه وجِلَّه، والهُدَى أجْمَعُهُ، والعَدْلَ أكْتَعُه.
فكان ﷺ جميلَ الخَلْقِ والخُلُق، وسطا في الأمور كلها ورحمة : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾.
وكان ﷺ كثير التَّبَسُّم لأصحابه وجُلَسَائِه، فعن عبد الله بن الحارث رضي الله عنه قال: “ما رأيت أحدًا أكثر تبسُّمًا من رسول الله ﷺ “.
يـا راغِبًا في حَصْـرِ فضل محمـدٍ
خَفِّض عليك ففضله لا يُحْصَرُ
إن قلتَ: مثل الرَّمِْلِ أو مثل الحصى
أو مثل قَطْر الغيث قلنا : أكثرُ
كان ﷺ يُدْخِل البِشْرَ والسُّرُور، ويزرع الأُلْفَةَ والحُبُور، يُراعِي المشاعر ، ويَجْبُر الخواطر، لِمَا في الجَبر بعد الصبر من عظيم الأجر، ومَنْ جَبَرَ الخواطر وقاه الله شر المخاطر.
أحبة المصطفى ﷺ : لقد كان للنبي ﷺ المكانة السامقة عند أصحابه رضي الله عنهم حتى كانوا يَفْدُونَه بأنفسهم وأموالهم ولا يُقَدِّمُون عليه أحدًا أبدًا، حُبًا ووفاءً، وكان النبيّ ﷺ يبادلهم هذا الحب والوفاء؛ فهذا زيد بن حارثة لما نزل قول الله تعالى ﴿وَما جَعَلَ أدعِياءَكُمْ أبْناءَكُمْ ﴾. خَيَّره النبي ﷺ بينه وبين أبيه وقومه فاختار النبي ﷺ وقال: “والله لا أختار أحدا غيرك”، ويوم بدر لما شاور النبي ﷺ أصحابه: فقال سعد بن عُبادة سيد الأنصار: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا الْبِحَارَ لَأَخَضْنَاهَا وَلَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَضْرِبَ أَكْبَادَهَا إِلَى بِرْكِ الْغِمَادِ لَفَعَلْنَا، فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لذلك ونَدَبَ النَّاسَ فَانْطَلَقُوا حَتَّى نَزَلُوا بَدْرًا وانتصروا.
بعد ذلك تحدث معالي الدكتور عبدالرحمن السديس عن وفاءِ النبيّ ﷺ موضحاً أنّهُ إذا ذُكِرَ الوَفَاء فلا وفاءَ أعْلَى وأسْمَى من وفائه ﷺ بزوجته خديجة رضي الله عنها في حياتها وبعد وفاتها، روى الإمام أحمد في مسنده، عَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ رضي الله عنها أنها قالت: “كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ، وقال:” قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ” ، لم يَنْسَ وفاءَهَا حين وَاسَتْهُ وآزرته أول ما نزل عليه الوحي وقالت له:” وَاللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ “( متفق عليه)
إخوة الإسلام: ألم يَئِنِ الأوان أن نُعلي قيمنا الدينية وشمائلنا النبوية لتكون رسالتنا العالمية الحضارية ، لتحقيق السلام الإنسانِي والأمن العالمي، المُجرَّدِ عَنِ المَطامِعِ والدَّوافع، والأغرَاض المَدْخولَة والمَنَافع، فَلَنْ يَرْسُوَ العالم في مَرَافئ القيم والأخلاق الفاضلة، إلاَّ بِدَحْرِ الانحطاط الخلقي، والتصدي للسقوط القِيَمِيّ، لاسيما في زمن التحولات والمتغيرات، والأزمات والتحديات، خاصة عبر المواقع والقنوات والشبكات، فقد كثرت المحتويات المخالفة للقيم الدينية، والأعراف السوية، والفِطر النقية، ولا بد أن يكون الانتصار للقيم طَيّ الأفكار والأرواح، لا الأدراج ومَهَبِّ الرياح.
وبنظرة فاحصة إلى واقع الأمة حيال هذه القِيَم أمام جيوش الماديات، وسيول المُغْرَيات، تتجلى الحاجة إلى الثبات عليها، والاعتزاز بها على ضوء الكتاب والسنة بمنهج سلف الأمة، فقد استبدل بعض الناس بنور الوحيين سواهما، واكْتَفَوْا مِن حُبِّ هذه القيم والشمائل بالمظاهر على حساب الحقائق، فبدل أن تعيش هذه الشمائل في حياتهم كلها اكتفوا من البحر اجتزاءً بالوَشَلْ، فعاشوا بين الغُلُو والجفَاء ، وآخرون ضحايا أزماتهم النفسية ولَوْثَاتهم الخلقية جحودًا وكُنُودًا ونكرانًا للجميل، ممن راشُوا قبل أن يَبْروا، وظنوا أنهم الغرباء، مأفونين مأزومين، ذوي لؤم ودناءة، وقلة مروءة وفساد طوية؛ بغية مكاسب موهومة ولعاعات مزعومة يتلونون تلوب الحرباء ويروغون روغان الثعالب، ويقتاتون على موائد الأحداث والأزمات، وفي المواقف تبين المعادن.. لا كثر الله سوادهم.
ولهذا كان لزامًا على الأمَّةِ أن تَسْتَجمِعَ قُوَاها، وتُعِيدَ بناء كِيَانها، وتواجه تحديات أعدائها: بالعناية بمقوماتها الأصيلة، لا بالسَّيفِ والعنفِ والإرهاب؛ بل بالوعي الديني الوسطي، فَتَدْحَرَ بقذائف الحق شبهات المبطلين، وتأويل الجاهلين، وتحريف الغالين، ولتعيش وَسَطًا بين المتنطعين والملحدين والمنحلين.
وفي ختام الخطبة الأولى تحدث خطيب المسجد الحرام عمّا أصاب أجزاء من عالمنا الإسلامي من الحوادث والكوارث، والزلازل والفيضانات، حيث شدّدَ على الوقوف مع المنكوبين والمرزوئين، ولاسيما في المغرب وليبيا.
ولقد امتدت سحائب العطاء، وجسور الإغاثة والوفاء من بلادنا المحروسة لإغاثة الملهوفين، ومواساة المنكوبين، ولله الحمد والمنة. وهذه آياتٌ وتذكير، ولا يقال: غضب الطبيعة ﴿وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾.
فالانتصار للقيم الدينية سَنَنُ العَوَدَةِ الظّافرة بالأمّة، لِنَقود العالم بشغف الهِمَّة لبلوغ القمة، ونكونُ فيه كما أراد اللهُ لنا: الهُدَاة الأئمة، ونسوقه إلى أفياء السلام والعدل بالخُطُمِ والأَزِمّة.
هَلْ وحدة في الله تُوقِظُ عَزْمَنَا
فننير ما حَاك الضَّلالُ وزَوَّرا
هل نصرة لِلَّـه تجْمَـعُ شَمْلَنَا
لِـنَقُـود هذا العَالَم المُتحَيِّرَا
ثم دعى معاليهِ لأهل درنة المنكوبة بأن يكون الله في عونهم، ويلطف بهم، ويرحم موتاهم، ويعَافَي جَرْحَاهم، ويشفي مرضاهم، ويرْحَم ضَعفهم، ويجْبُر كَسْرَهم.
وفي الخطبة الثانية أكّد معالي الشيخ السديس على الدعوة للقيم الدينية وكونوا خَير دُعَاتِها، وأبِينُوا للعالم دُرَّ صَدَفاتِها، وأنْوَار هِدَاياتِها، تنالوا العز والنّصْرَ فِي جنباتها.
معاشر المؤمنين: وإن من المفاخر والمآثر التي شهدت بها الدنيا وأطبق عليها الأنام ما منَّ الله به على هذه البلاد المباركة من إعزاز القيم الدينية، والأخلاق الإسلامية منذ توحيدها إلى يومنا هذا.
فكانت وستظل مهدًا للإسلام ورائدة السلام وراعية الحرمين الشريفين وقاصديهما من الحُجَّاج والعُمَّار والزُّوَّار، فله الشكر على جزيل إحسانه وعظيم امتنانه.
واختتم معاليهِ خطبته عمّا تشهدهُ المملكة من تغيرات كُبرى ، ومن ضمنها الحرمان الشريفان في هذه الآونة من فائق العناية وبالغ الرعاية، وأسطعُ البراهينِ الناطقة والأدلةِ العابقة إنشاء جهاز مستقل يرتبط بولي الأمر حفظه الله لتعزيز وتفعيل الرسالة الدينية في الحرمين الشريفين، تسامحا وتعايشا ووسطية واعتدالا لتحقيق قوله سبحانه: ﴿ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ﴾. فهو مفخرة لكل مسلم، وإشراقة ساطعة في جبين التاريخ خدمة للبيت الحرام ومسجد النبي عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، سعيا لراحة ضيوف الرحمن، وتمكينهم من عباداتهم، وطاعاتهم ومناسكهم، عبر أجواء تعبدية إيمانية روحية مُفعمة باليسر والطمأنينة، والسهولة والسكينة؛ لإثراء تجربة القاصدين الدينية.
فجزى الله خادم الحرمين وولي عهده خيرًا على تلك الجهود المُسَدَّدة ، وعلى ما قَدَّمَا ويُقدِّمَان للإسلام والمسلمين، وجعلها في موازين أعمالهم الصالحة. أدام الله على بلادنا نعمة التوحيد والوحدة ، والأمن والاستقرار، والرخاء والازدهار.
ثم دعى خطيب المسجد الحرام بأن يحفظ الله بلاد الحرمين الشريفين وسائر بلاد المسلمين.