قال إمام وخطيب المسجد النبوي الشيخ د. خالد بن سليمان المهنا -في خطبة الجمعة-: من فضائل الشريعة العظام ومحاسنها الجسام كثرة سبل الخير، وتنوع أعمال البر التي يتقرب بها كل مؤمن إلى مولاه، سواء كان المؤمن غنيا أم فقيرا، قويا كان أو ضعيفا، ومن رحمته سبحانه وفضله على عباده أن رزقهم كلهم، ثم خص بعضهم بالغنى ليبلوهم بالشكر، وليتقربوا إليه بالزكاة والصدقات فتعظم أجورهم، وتطهر أموالهم وتزكوا نفوسهم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، ثم إنه سبحانه وهو البر الرحيم شرع لعباده من القربات ما يشرك به الفقير أخاه الغني، فيصير بمنزلته في حسن الثواب، أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث الصحابي الجليل أبي ذر جندب ابن جنادة الغفاري رضي الله عنه أن أناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا له: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم بفضول أموالهم، فقال عليه الصلاة والسلام: أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إن لكم بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا يا رسول الله: أيأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر، قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر”.
وأضاف: دلت نصوص الوحيين الشريفين على سعة مفهوم الصدقة وأن ما كان منها ماليا فإنه غير محصور في الفقير والمسكين، وإن كان فضل الصدقة عليهما ثابتا جزيلا، وأن ثمة أبوابا وسبلا يلج منها العبد المنفق، مهما قلت جدته إلى ديوان المتصدقين، ويلحق به ركب ذوي اليسار المنفقين، منها الإنفاق على العيال والأهل، بل والإنفاق على النفس، قال عليه الصلاة والسلام: “إذا أنفق الرجل على أهله نفقة يحتسبها فهي له صدقة”، وقال عليه الصلاة والسلام: “دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار أنفقته على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك”، والصدقة على النفس بإغنائها مقدم على النفقة على الأهل، أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما قال: “أعتق رجل من بني عذرة عبدا له عن دبر، فقال له: أنت حر بعد موتي، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله وسلم فقال له ألك مال غيره؟، فقال: لا، فقال صلى الله عليه وسلم: من يشتريه مني فاشتراه نعيم بن عبدالله العدوي بثمانمائة درهم فجاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفعها ثم قال صلى الله عليه وسلم: ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن قرابتك شيء فهكذا وهكذا، يقول: فبين يديك وعن يمينك وعن شمالك”، وقال عليه الصلاة والسلام: “خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول”، أخرجه الإمام البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وتابع: حديث أبي ذر المتقدم وغيره من النصوص النبوية المباركة، شواهد على النوع الثاني من أنواع الصدقة بمفهومها العام، وهو كل بر وإحسان ينفع به المسلم نفسه، أو يتعدى نفعه إلى غيره، فكل ذكر لله تعالى صدقة وإعفاف النفس والزوج بقضاء الوتر المباح صدقة، وكل معروف صدقة، كما قال ذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، ومعونة الحاجة الذي يقوى على تدبير أمره لعجزه بمرض ونحوه، كل ذلك صدقة، ومن لم يطق شيئا من ذلك فإن إمساكه عن الشر وكف أذاه عن الخلق صدقة منه على نفسه، قال عليه الصلاة والسلام: “على كل مسلم صدقة، قالوا: فمن لم يجد؟، قال يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق، قالوا: فإن لم يجد، قال: يعين ذا الحاجة الملهوف، قالوا: فإن لم يجد، قال: فليعمل بالمعروف وليمسك عن الشر فإنها له صدقة”، متفق على صحته، ومن وجوه الصدقة أن يغرس المسلم غرسا أو يزرع زرعا فينتفع به إنسان أو حيوان، قال عليه الصلاة والسلام: “ما من مسلم يغرس غرس أو يزرع زرعا فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة إلا كان له به صدقة”، أخرجه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
وأضاف: كلما أعان المسلم أخاه في جلب نفع أو دفع ضر أو إزالة مكروه، أو أخل السرور عليه ذلك صدقة، قال عليه الصلاة والسلام: “إفراغك من دلوك في دلو أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وتبسمك في وجه أخيك صدقة، وإماطتك الحجر والشوك عن طريق الناس لك صدقة، وهدايتك الرجل في أرض الضالة صدقة”، وكلمة طيبة يتعلم بها الجاهل أو الغافل، وفأل حسن يلقيه المسلم على مسامع أخيه أو دعوة صالحة يودعه بها أو يستقبله بها كل ذلك له صدقة، قال عليه الصلاة والسلام: “والكلمة الطيبة صدقة” وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: “ما تصدق رجل بصدقة أفضل من موعظة يعظ بها جماعة فيتفرقون وقد نفعهم الله بها”.