أمّ المسلمين اليوم لصلاة الجمعة في المسجد الحرام فضيلة الشيخ الدكتور فيصل بن جميل غزاوي إمام وخطيب المسجد الحرام، واستهل فضيلته خطبته قائلاً: إِنَّ الله تَعَالَى فَطَرَ خَلْقَهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، يَوْمَ أخْرَجَهم مِن ظَهْرِ آدَمَ كالذَّرِّ، وأشْهَدَهم عَلى أنْفُسِهِمْ أنَّهُ رَبُّهم وآمَنُوا بِهِ، فَمَن كَفَرَ فَقَدْ غَيَّرَ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ ويَشْهَدُ لِهَذا قوله ﷺ: “كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ فَأبَواهُ يُهَوِّدانِهِ أوْ يُنَصِّرانِهِ أوْ يُمَجِّسانِهِ…”، وفي الحديث القدسي: “إنِّي خَلَقْتُ عِبادِيَ حُنَفاءَ فَجاءَتْهُمُ الشَّياطِينُ فاجْتالَتْهم عَنْ دِينِهِمْ وحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ ما أحْلَلْتُ لَهم” .
وقال: لقد بعث الله نَبِيَّهُ ﷺ بَدين الْإِسْلَام، الحنيفية السمحة الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَلَا انْحِرَافَ ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾. وإبراهيم عليه السلام هو النَّبِيُّ الَّذِي يُعَظِّمُهُ أهْلُ الشَّرائِعِ والدِّياناتِ، وقد زعمت كُفّارُ قُرَيْشٍ أنَّهم عَلى دِينِهِ، ونسبت إليه ضلالاتهم كذبا وزورا فَرَدَّ الله تَعالى عَلَيْهِمْ بِقَوْلِه :﴿وما كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ فكان عليه السلام بريئًا من الشرك وأهله. ومَعْنى كَوْنِ الإسْلامِ مِلَّةَ إبْراهِيمَ: أنَّهُ جاءَ بِالأُصُولِ الَّتِي هي شَرِيعَةُ إبْراهِيمَ وهي: إثبات التَّوْحِيد واتباع ما تقتضيه الفِطْرَة. كما نَزَّه الله تَعَالَى الخليلَ عليه السلام مِنْ الدَعَاوى الْكَاذِبَةِ ورد على من حاج فيه وجادل بالباطل فقال تَعالى: ﴿مَا كَانَ إِبۡرَ ٰهِیمُ یَهُودِیࣰّا وَلَا نَصۡرَانِیࣰّا وَلَـٰكِن كَانَ حَنِیفࣰا مُّسۡلِمࣰا وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ﴾. وفي هذا ثناء على أبي الأنبياء وإمام الحنفاء إبْراهِيم عليه السلام إذ وصفه ربه بالتوحيد الخالص، والاستسلام لله عز وجل وأنه لم يكن معتنقا ديناً من الأديان غير الإسلام، فطرة ومنهجاً؛ بل هو عليه السلام الذي أشاع التَّوْحِيدِ، وبنى الكَعْبَة، ودعا الناس إلى الحج، وأعْلَنَ تَمامَ العبودية لِلَّهِ تَعالى، فأكرمه الله وزاده تَعْظِيمًا وجَلالَةً بِأنْ أمر نبيًّنا ﷺ بِاتِّباعِ مِلَّته قال تَعالى: ﴿ثُمَّ أوْحَيْنا إلَيْكَ أنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْراهِيمَ حَنِيفًا وما كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ وكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا أَصبَحَ يقولُ: “أَصبَحْنا على فِطرةِ الإسلامِ، وكَلِمةِ الإخلاصِ، ودِينِ نَبيِّنا محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وعلى مِلَّةِ أبِينا إبراهيمَ، حَنيفًا مُسلِمًا، وما كان مِنَ المُشرِكينَ”.
وأضاف: مما توعد الشيطان به بني آدم تغيير فطرتهم التي خلقوا عليها فقد حكاه سبحانه في قوله: ﴿وَلَآمُرَنَّهم فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾. وهناك صور متعددة لتغيير خلق الله إضافة إلى تغيير دين الله، منها: قطع آذان الدواب وتغيير الخلقة الظاهرة بالوَشْمِ والنمص والتفلج للحسن وما إليها من التغيير والتشويه الذي حرمه الإسلام ومن ذلك أيضا فعل بعض القبائح والرذائل كالتخنث وعمل قوم لوط والسِّحاقِ والدياثة ونَحْوِ ذَلِكَ.
وأشار فضيلته: إن تغيير خلق الله إضلال من الشيطان وتَحْرِيمٌ وَتَحْلِيلٌ بِالطُّغْيَانِ، وَقَوْلٌ بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَلَا بُرْهَانٍ. ومما يدخل في هذا اعتقاد النفع والضر في غير الله تعالى، كمن يعتقد في حلقة، أو تميمة، أو حجر، أو شجرة، أو نحوه وأن ذلك سبب في جلب نفع أو دفع ضُرٍّ، وهناك من زين له الشيطان سوءَ عمله فأبعده عن فطرته السوية وأوقعه في الشرك بالله وأفعال الجاهلية، وصْرفِ شيء من العبادة لغير الله باري البرية، كالدعاء والاستغاثة والاستعانة والنذر والذبح والطواف بغير الكعبة والتوكل والخوف والرجاء والحب ونحوها، أو اعتقاد أن أحدا دون الله يعلم الغيب أو أن هناك سوى الله من يدبر أمر العالم أو يتصرف في الكون.
واردف بقوله: الله تعالى خلق عباده على الفطرة السوية وجعلهم مجبولين على محبة الخير وإيثاره واستحباب المحاسن والفضائل، وكراهية الشر ودفعه واستهجان القبائح والرذائل، لكن الشيطان صرفهم عن الدين الحق فجعلهم يخالفون سنن الله وشرائعه وأحكامه وينحرفون عما تقتضيه العقول السليمة والفطر الكريمة.
ومن أمثلة ذلك أن الله تعالى الذي خلق البشر وجعلهم صنفين ذكرا وأنثى قد قرر فقال: ﴿وليس الذكر كالأنثى﴾ ففرق بينهما وهو الأعلم بالحِكَمِ والمصالح سبحانه، وجعل لكل منهما خصائصه وسماته، ثم يأتي من يخالف فطرته ويعاند أمره فيسعى في تغييرِ جنسهِ الطبيعي، بأن يتحول الرجلُ إلى امرأةٍ، وتتحول المرأةُ إلى رجلٍ، والنَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ فيما دون ذلك؛ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: “لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَالْمُتَرَجِّلاَتِ مِنَ النِّسَاءِ”
واسترد فضيلته بقوله: الله تعالى جعل الزواج الإنساني بين الرجل والمرأة شريعة كونية لكن الشيطان يعمد إلى أن يتعدى العبد حدود الله ويرتكب ما تنفر منه الطباع السليمة، حتى بلغ الحال بأولياء الشيطان أن يتداعوا لطمس الفطرة وإفساد الخلقة بفرض قوانين لتشريع زواج الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة والتزاوج مع الحيوانات والتحريض على الانحراف الجنسي والشذوذ وكل أنواع الإباحية وجعلوه تطورا وحضارة، واتخذوا موقفا عدائيا ممن أنكر ذلك وعَدُّوه متخلفا متطرفا، فانظروا كيف ارتكست فطرهم واختلت مفاهيمهم؛ فحاربوا الطهر والفضيلة وعاقروا الفجور والرذيلة وبلغوا الغاية في الانحطاط الأخلاقي والانهيار القيمي والهبوط إلى الدرك البهيمي؛ حتى فاقوا ما كان عليه قوم لوط الذين أتوا الفاحشة التي لَمْ يَسْبِقْهُمْ بِهَا أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ وَلَا غَيْرِهِمْ، فعاجلهم الله عز وجل بعقوبة لَمْ يُعاقِبْ بِها أحَدًا غَيْرَهُمْ، وجَمَعَ عَلَيْهِمْ مِن أنْواعِ العُقُوباتِ بَيْنَ الإهْلاكِ، وقَلْبِ دِيارِهِمْ عَلَيْهِمْ، والخَسْفِ بِهِمْ، ورَجْمِهِمْ بِالحِجارَةِ مِنَ السَّماءِ، وذَلِكَ لِعِظَمِ مَفْسَدَةِ هَذِهِ الجَرِيمَةِ الشنعاء التي غيروا بها الفطرة وقلبوا الحقائق، وليس ببعيد أن تصيب نقمة الله وينزل عذابه الشديد بمن تشبه بهم وفعل فعلهم واتبع آثارهم، كما قال سبحانه ﴿وماهي من الظالمين ببعيد﴾. فلا تأتي مخالفة الفطرة التي خلق الله الناس عليها إلا بالويل والفساد والدمار.
واختتم: هؤلاء المفترين منتكسي الفطر المبدلين لخلق الله قد أفلسوا روحيا وانهارت عندهم كل القيم الإنسانية والحضارية، وأصبحوا يعانون من أزمات أخلاقية ومشكلات اجتماعية، فلم يرق لهم أن يبقى المسلمون على أخلاقهم وآدابهم وسلوكياتهم المستقاة من الوحي المطهر والمتفقة مع الفطرة السليمة فقام بعضهم باستفزاز مشاعر المسلمين في كل مكان واستثارة غضبتهم، بشن حملات محمومة وأفعال عدائية معلنة متكررة ضد العالم الإسلامي بدعوى حرية الرأي، وما حرق المصحف الشريف وامتهانه وتدنيسه والنيل من النبي الكريم صلى الله عليه وسلم والسخرية منه والطعن فيه والتشكيك في سنته إلا صورة من صور ذلك؛ فأظهروا بذلك حقدهم الدفين ضد المسلمين وأججوا نار الكراهية والعنف، لكنها كلها بفضل الله محاولات يائسة في الصد عن سبيل الله وتشويه صورة الإسلام لا تلبث أن تعود عليهم بالخسارة والوبال. ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾