الكِتاب وما أدراك ما الكتابُ فحديثُه حديثٌ من السِّحر الحلال، هل أتاكم نبأُ السطرِ وخبرُ الحرفِ؟ هل عرِفتم نعمةَ المعرفةِ؟ كيف لي أن أبدأَ وقد شاختْ حروفُ المُعجمِ وتعثَّرتْ أفانينُ النقوشِ في وصفِ فوائدِ القراءة!.
إنَّني عندما أُريدُ الكلام عن فوائِدها لا يتمثَّلُ في ذهني إلّا أوَّل آيةٍ من كتابِ اللهِ جلَّ جلاله ، قال تعالى: ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِی خَلَقَ ١ خَلَقَ ٱلۡإِنسَـٰنَ مِنۡ عَلَقٍ ٢﴾
فإذا كان الله قد أمر نبيَّهُ ﷺ بالقراءة، فليس بعد هذا القول قولٌ البتّة، بل من الخَطَلِ أنْ نَتَمَحّلَ الأدلةَ، ودليلُ كتابِ الله؛ محا كلَّ ما سواه من البراهينِ والدلائل
محا السيفُ أسطارَ البلاغةِ وانتحى
عليك ليوثُ الغابِ منْ كلّ جانبِ
في بَردْية فرعونية قديمة: "يقول -داووف بن خيتي، أحد حكماء قدماء المصريين، لابنه يوم صحِبه إلى دار المدرسة لأول مرة- يا بُنيّ ضع قلبك وراء كتبِك، وأحبِبْها كما تُحب أمك، فليس هناك شيءٌ تعلو منزلتُه على الكتب. واعلم يا بُنيّ أنَّه ما من طبقة من النَّاس إلا فوقها طبقة أخرى تحكمها إلا الحكيم فهو الوحيد الذي يحكم نفسَه بنفسِه".(١)
إنَّك وقد جمعتَ عليكَ همَّك في زاويةِ بيتِك، واقتعدتَ قِعْدةً مع كتابِ تفسيرٍ أو سِفرِ أدب أو ديوانِ شعرٍ تسمو به وتُحلِّق، وأَنتَ على هذا الحال تكون قد جمعتَ الدنيا بحذافيرها لأنّ المعرفة الموصولة بهدي الإسلام ليستْ من المادياتِ ولم تَتَدنّسْ بأوضارِها، وإنَّما هي مِن عالم الرُّوح والملأِ الأعلى.
و لا يُفهم من المطالعة أنَّها تكديس للمعارف والمعلومات في الدماغ دونما تحليل واستنطاق للكتاب المسطور والكتاب المنظور، وإلا كان هذا من العبث المُتْلِف، بل إنَّ كثرة الاطِّلاع تؤدي إلى تعميق الوعي واستنهاض الهمم للبناء، إنَّ المجتمع الذي لا يقرأ أفرادُه قد زرع بذور الفناء في ذاتِه وانتعله الآخرون ليقضون به وطَرَهم، ولسائلٍ أن يسألَ وهل غيَّرتِ القراءةُ؟ وهذا سؤالٌ يرتدُّ على قائله بمفهوم المخالفة كما يقول الأصوليون، ومفهوم المخالفة واضحٌ وضوح الشمس في رائعة النهار.
قد ينكرُ الفمُّ طعمَ الماء من سقمٍ
وتنكرُ العينُ ضوء الشمس من رمدِ
اذهب إلى المجالس والتكايا لترى هذا بعينيِّ رأسك ولتشهد الخواءَ والأحاديثَ التي تنسابُ بدون أزِمَّة حتى من أدنى نظر وأقلِّ رويَّة، قل لي هل يكون هذا لو كان للكتاب في المجتمع مكانٌ، ما كان ليكون هذا، ولكنَّه الجهل بارتقاء النفس عندما تُهذَّب وتُنتقى لها أطايب الفكر والمعرفة لتسمو في معارج الإكرام العُلوي.
وفي عودة إلى كلمة الحضارة الأولى (اقرأ) وكيف فهمها الأولون خير فهمٍ، وأقاموا صروح المعرفةِ بها وانعجنتْ قواهم وملكاتُهم بها حتى صنَّفوا التصانيف الباذخة التي طاولتِ الزمانَ فخراً وشموخاً، ولقد ذكر ابنُ عبدالهادي في المناقب الدُّريَّة عن شيخ الإسلام ابن تيمية أنَّه: "لا تكادُ نفسُه تشبع من العلم، ولا تروى من المطالعة ولا تَملُّ من الاشتغال ولا تَكِلُّ عن البحث وقلَّ أن يدخل في علمٍ من العلوم من بابٍ من أبوابه إلا ويُفتح له من ذلك الباب أبواب ويستدرك في ذلك العلم على حُذَّاقِ أهلِه".
بل وصل الشغفُ المعرفيُّ ببعضهم أن باع داره التي يسكنها لأجل كتاب، ولا أريد أن أسوق قصصاً بعيدة في التاريخ ولكنَّها في التاريخ المعاصر، وهو الشيخ عبدالحي الحسني أحد علماء الهند الذي باع؛ دارَه التي كانتْ على جسر فرنكي محل واشترى "حاشية الطحطاوي على الدُّرِّ المختار" بستين روبية.
ماذا أقول عن الذي ارتضى السير في دياجير الظلام، وترك الضياءَ والنُّور الذي بين لفائف الأسفار
عجباً لا ينتهي من عجبٍ
وفتوناً ليس يبلى من فتون
___________
١-العالم بين دفتي كتاب، لعدة مؤلفين، ترجمة سهير القلماوي، مكتبة النهضة المصرية.