كيف نواجه مشكلة اسمها: الجريمة في الأحياء العشوائية القديمة. لقد بدأت المواجهة من مدينة جدة ثم مكة والبقية تأتي. عواصم ومدن في كل العالم تعاني من هذه المشكلة.
الجريمة.. في (الأحياء القديمة)..؟
* أقصد بالأحياء القديمة؛ تلك الأحياء العشوائية التي لا تخلو منها مدينة من مدننا، ولا حتى مدينة في دول العالم كافة، وحتى العواصم الكبرى في هذا العالم؛ فيها من العشوائيات ما لا عد له ولا حصر. ومع أنه ليس كل حي قديم عشوائي؛ وليس كل حي عشوائي قديم؛ فإن مثل هذه الأحياء التي ظهرت أو تظهر في غفلة من التنظيم الإداري والبلدي؛ تشكل مع مرور الأيام؛ عبئًا ثقيلاً على السلطات الإدارية للمدن، وعبئًا أكبر على كثير من ساكنيها؛ من أولئك الذين لا علاقة لهم بما يجري في هذه الأحياء من جرائم كبيرة أو صغيرة. في كثير من عواصم العالم؛ أحياء عشوائية تتحكم فيها الجريمة بالكامل، حتى إن السلطات الإدارية والأمنية في هذه العواصم؛ لا تستطيع دخول هذه الأحياء، وهناك حسب إحصاءات منشورة؛ أكثر من مليار إنسان يقطنون مدنًا وأحياءً عشوائية في قارات آسيا وأوروبا وأفريقية والأميركيتين الشمالية والجنوبية. إن المنطقة العشوائية. هي منطقة سكنية غير منظمة، بنيت في الغالب بدون ترخيص، وقد تفتقر لأبسط مقومات الحياة الكريمة كالماء الصالح للشرب، والكهرباء وغيرها من أساسيات العيش. فهي تُسمى في مصر: إسكان العشش، والمصطلح الشائع في المغرب هو: السكن غير اللائق، وفي الجزائر: البناء القصديري، أو الفوضوي، وفي العراق تدعى: حواسم، أو: تجاوز، وفي اليمن: بيوت عشوائية. ونطلق عليها في بلادنا: عشوائية.
* أظن - وبعض الظن ليس بإثم- أن ليس للجريمة مكان محدد، ولا حتى زمان محدد، ولكن لها إنسان محدد، بمعنى: أن مرتكبي الجرائم في العادة - وخاصة المنظمة منها- هم شريحة من المجتمع، لا تكترث بدين أو خلق أو نظام سائد، ولا يردعها خوف من الله أو حياء من خلقه، أو خشية سلطة قائمة، لهذا فهي تمارس السرقة، والاتجار في المخدرات، والتهريب، وممارسة السحر والدجل على خلق الله، وإيواء القتلة والمطلوبين للعدالة، وقد يصل الأمر إلى القتل والاتجار في أعضاء البشر. كل ما هو متخيل أو فوق التخيل؛ ممكن حدوثه في مساكن بعيدة عن الأنظار في أحياء عشوائية التنظيم لا تتوفر فيها أدنى مستويات الخدمات الصحية والاجتماعية. إن مما رشح من تقارير بُعيد العمل على إزالة عشوائية مدينة جدة التي بلغت الستين حيًّا؛ أنه كان يوجد بها أوكار للاتجار بالبشر بأسعار زهيدة جدًا، وتحتوي على الكثير من الأمراض والأوبئة التي يمكن من خلال السلوكيات غير الأخلاقية نقلها لأفراد المجتمع البريئين والبعيدين عن هذه الأحياء، وأنه تم ضبط العديد من القضايا، ومن أهمها أكثر من 60 مليون ريال سعودي كاش، وأكثر من 100 كيلو ذهب تقدَّر قيمتها بأكثر من 50 مليون ريال سعودي، وكانت تهيأ لتهريبها لخارج المملكة. إن شريحة المجرمين في هذه الأحياء؛ هم بشر ضعفاء نفوس، مكّنهم المكان من الجريمة، وهم كما وصفهم (أجاثا كريستي) الذي قال: (إن الإنسان الضعيف؛ قد يصبح وحشًا مفترسًا إذا أتيحت له الفرصة، وإذا كان يشعر بالحقد على الحياة والمجتمع).
* مثل هؤلاء البشر؛ الذين يرتكبون الجرائم على مختلف أنواعها؛ هم من يختار المكان المناسب، الذي تتوفر فيه فرص الممارسة الممنوعة، بعيدًا عن الأعين قدر الإمكان، ولهذا جاءت أهمية الأحياء العشوائية في المدن عند أرباب الجريمة، لأن هذه الأحياء المكتظة بالسكان من الطبقات الفقيرة في العادة؛ تفتقر للتنظيم الهندسي، ولا تصلها الخدمات البلدية كما ينبغي، ولا يسكنها إلا محدودو الدخل، وفقراء الناس، أو المتخلفون والمخالفون للإقامة، ومحترفو الجريمة طبعًا، إلى جانب طبيعتها الطوبوغرافية المعقدة، فمساكنها في العادة؛ تقام بطرق غير نظامية، وشوارعها عبارة عن زنقات ضيقة ملتوية، وليلها مظلم، ونهارها معتم. إن كثيرًا من الذين ولدوا وعاشوا على هامش الحياة؛ يجدون ضالتهم في مثل هذه الأحياء. قال (سيغموند فرويد) وهو طبيب نفسي: (إن النفس البشرية؛ مليئة بالاضطراب والتخيل، وإن الكثيرين الذين يعيشون في أوهام؛ إذا لم تنقذهم العناية الإلهية من أوهامهم؛ ينحدر بهم الطريق إلى الجريمة والجنون).
* كانت هذه الأحياء وسوف تظل؛ بؤراً لمختلف الجرائم، ومأوى للهاربين من وجه العدالة، وسوف تبقى خطرًا أكبر، يهدد حياة الناس وأخلاقهم، وينغص عليهم معاشهم، حتى أولئك الذين يسكنون بعيدًا عن هذه الأحياء؛ إلى أن تصبح بشكل فعلي، تحت مشرحة الهدم والتخطيط، والبناء من جديد، عندها يمكن أن يدخلها النور من جديد، وتتسع شوارعها للمارة، وتفتح نوافذها على حدائق وميادين ومرافق أمنية وخدمية على مدار الساعة، وهذا ما يجري اليوم لعديد الأحياء العشوائية القديمة في مدينة جدة ومكة المكرمة كمثال، إلى أن تصل يد التطوير والتنمية إلى عشرات ومئات الأحياء القديمة العشوائية في مدن كثيرة في المملكة، ففي الطائف أحياء عشوائية قديمة لا تقل خطرًا عن تلك التي جرى هدمها وإزالتها في مدينة جدة ومكة المكرمة، وفي المدينة المنورة والرياض وغيرها كذلك.
* لكي نقضي على الجريمة والمرض وفساد الأخلاق؛ يجب أن ننهي كل حالة اسمها حي عشوائي وسكن عشوائي. قال الشاعر أحمد شوقي ذات يوم:
وإذا النفوس تطوَّحت في لذة
كانت جنايتها على الأجساد