قد يحدث أن يطول وقت النّقاش بين الأفراد و يصل الى حدّ التراشق بالألفاظ المسيئة, وقد يتطور هكذا تراشق الى حدّ الاشتباك بالأيدي وبالتالي وصول الأزمة الى مستوى يصعب معه فضّ الاشتباك بسبب التّوتر المتصاعد بين الأطراف المتخاصمة. و على غرار "قواعد الاشتباك العسكري" فان للاشتباك اللفظي أيضا قواعد و أصول ينبغي الالتزام بها والحرص على تطبيقها لكي يتسنّى لطرفي الحوار التحكّم بالأعصاب والسيطرة على الموقف قبل أن يتفجّر ويتحول الى عراك ملحمي لربما أدّى الى تداعيات خطيرة وعواقب وخيمة ليس على الطرف الضعيف فحسب و انما حتى على المنتصر في هذا الصراع كذلك.
وحينما يتطوّر الاشتباك بالألسن الى اشتباك بالأيدي والأسنان, فان الطرف الضعيف في ميزان القوّتين اللفظيّة والبدنيّة قد يسقط أو يطلب الدّعم والمساندة من أياد أخرى لمساعدته على المواجهة المحتدمة قبل الوصول الى مرحلة الانهيار التّام أمام الخصم العنيد الذي تفوّق عليه في ساحة الاشتباك الدّموي.
وهنا, وبعد دخول عناصر أخرى في دائرة الصراع, فان الأمر قد يأخذ منعطفا خطيرا و يزداد سوءا وتعقيدا وتأزّما نتيجة لاتّساع دائرة الصراع و بالتالي وقوع ضحايا آخرين من بينهم بعض الدّاعمين الذين شاركوا في الاشتباك بقصد تفريق المتظاهرين و فضّ الاشتباك بين الأطراف المتصارعة.
ولهذا فان عدم الالتزام بقواعد الاشتباك اللّفظي ستفضي حتما الى ملحمة تسفك فيها الدّماء و تكسر فيها الجماجم والسواعد, ومن المحتمل أيضا أن يلقى أحد طرفي النزاع أو كلاهما حتفه أو يتعرض أي منهما الى اصابات بليغة لعدم قدرتهما على التّحكم مسبقا بسيل الألفاظ القاسية, أو لإخفاق أحدهما أو كلاهما في القدرة على ضبط النفس منذ نشوء مرحلة الحرب الكلامية بينهما.
لذلك, ومن خلال مشاهداتي وتجاربي في الحياة, فاني أرى أن الاستمرار في الجدل العقيم مع الآخرين لا و لن يؤدّي الاّ الى مزيد من تصعيد التّوتر و حرق الأعصاب حتى وصول الذّات الانسانية الى مستوى الغليان العاطفي ما يجعل النفس تميل الى ارتكاب الاساءة بأدوات ووسائل الشّر المختلفة وبالتالي حدوث الانفجار العصبي المؤدي لارتكاب الجرائم واشتعال الحرائق.
كل هذا التطور تتمخّض مراحله الأولية عن أمور تافهة تؤدّي الى خلاف بسيط يمكن للأطراف كبحه وتخفيف حدّته قبل أن يتشعّب ويتعقّد. ومن الطبيعي أن يكون للخلافات البسيطة مقوّمات النمو التي تجعل منها مهلكة مستقبلية تتّسع دائرتها شيئا فشيئا حتى تصل الى المستوى الذي يحدث عنده اصابات أو وفيّات لا سمح الله.
يقول ابن القيّم الجوزية في مطلع قصيدته:
كُلُّ الحــوادثِ مَبْدَاها مِنَ النّظَــرِ *** ومُعْظمُ النّار مِن مُسْتَصْغَرِ الشّررِ
والمــرءُ مــا دَامَ ذَا عَينٍ يُقَلّبُهَـــا *** في أَعْيُنِ الغِيْدِ موقوفٌ عَلى الخَطَرِ
كَمْ نَظرةٍ فَعَلَتْ في قَلْبِ صَاحِبِها *** فِعْـــلَ السّهَـــامِ بلا قَـــوْسٍ ولَا وَتَرِ
يَسرُّ نَاظِـــرَه مَا ضَرَّ خَــــاطِرَه *** لَا مَرْحَبـــاً بِسُرورٍ عَــــادَ بالضَّرَرِ
من كل ما سبق, ولأجل تجنّب الوقوع في أجواء التلاسن اللّفظي الملبّدة بطبقات من الحقد والضّغينة, فان الحكمة تكمن في عدم مجاراة الأشخاص الذين يسعون لفرض وجهات نظرهم بانفعال وغضب وهجوم لفظي متكرّر يهدف الى استفزاز الطرف الآخر للتورّط في مستنقع المواجهة والمصارعة أو لدفعه الى الاستسلام والصّمت.
كما أن الشخص الحكيم هو من يسعى دائما لتفادي الرّد أو التعليق على مناقشات الاشخاص مثيري الشغب في المجالس وأماكن العمل أو حتى في الأماكن العامة. واذا ما وجد المفاوض أو المتحاور نفسه في مرحلة يصعب معها الانسحاب والتّراجع الى الوراء, فان عليه الدّفاع عن نفسه مع الالتزام بقواعد الاشتباك اللّفظي لضمان عدم انزلاقه في نفق التراشق اللفظي, ومن ثم صعوبة ايجاد مخرج طوارئ آمن يضمن له البقاء بعيدا عن مصادر الخطر.
ومن هذه القواعد العامة على سبيل المثال وقوف الشخص على الحياد أثناء المناقشات المستعرة, أو اختيار الالفاظ المناسبة التي لا تسهم في اشعال فتيل المناقشة بين المتحاورين. وكذلك محاولة امتصاص غضب الشخص المهاجم باختيار الألفاظ اللطيفة التي لا تثير السخط و الاستياء.
و أخيرا. فان من أفضل قواعد الاشتباك هو التّوقف والانسحاب من مسرح الصراع اللّفظي للتقليل من حدّة النّقاش الأمر الذي من شأنه المساعدة في اخماد الحريق قبل وصوله لمرحلة يصعب معها اطفاء ألسنة اللهب المشتعلة. ولذلك فان علينا اتّباع هذه القواعد العامة صونا للنفس من الأذى و سموّا بالروح الانسانية عن "مستصغر الشّرر" و مكمن الضرر.
يقول الامام علي بن أبي طالب:
صُنِ النَفسَ وَاِحمِلها عَلى ما يزيِنُها *** تَعِش سالِماً وَالقَولُ فيكَ جَميلُ
وَلا تُــرِيـنَّ النّــــاسَ إِلّا تَجَمّــــــُلاً *** نَبـا بِكَ دَهــرٌ أَو جَفـاكَ خَليــلُ