ظاهرةُ المقاهي الثقافية أحدُ ظواهر الأدب التي يجب أن تُعطى حقَها من البحث؛ لأنّها إحدى سِمات الواقع الثقافي والشعبي السائد، فلن أكسرَ القلمَ، وأريقَ المِدادَ، إذا لمعتْ بوارقُ الكتابةِ وأضاءتْ تلك المساحاتِ، التي يراها البعضُ مُعْتِمةً، وهي كذلك إذا كان فيها من المُحرَّمات مايكون عادةً عِند أهل المُنكرات في تلك الزوايا، ولكِنَّني على وقع أصواتِ فناجين القهوة وكؤوس الشاي فوق المناضِد، أرخيتُ السمعَ وحول حديث الأدب مع رواد المقهى اقتعدت قِعدة المستمع الولهان مع أحاديث السمر ودواعي السهر، في هذه المقاهي عادةً ما يُدار الحديثُ عن الكتب والثقافة والهموم المعرفِيَّة التي يُصاب بها المثقفون في عالَمٍ لا يُقدِّر هذه السِّجالات.
والذي يجرُّني للحديث عن المقاهي الأدبية هو حبِّي للأدب فهو عشقٌ لا ينتهي ولا أظنُّه يُحدُّ بحدود الزمان والمكان لأنَّه يتجلَّى بكل ذرّة من ذرات الحياة فهو حقيقة كبرى، واللغة أحدُّ تلك التجليات، وأخرى لها في النفس نصيب وهي النِّقاشات التي تُثري المقاهي وتُعمِّق الحوار، الذي بدوره يمنع الانسداد في المشهد العام ويُدرِّب على تقبُّل الاختلاف في الرأي، ولا أظنُّ أن يكونَ هناك تجمُّعٌ روادُه من سدنة الحرف وعشاق الكتاب ثُمَّ لا تُنسج الأحاديثُ فيه، دعْ عنك الحشو فهذا من تكملة فُسيفساء اللوحة فالألوان تتشارك في جمال اللوحة ولكن يكثُر اصطباغُ ألوانٍ لظهور ألوانٍ أخرى أكثر تمثُّلاً للجمال والكمال.
كان جمال الدين الأفغاني المصلح المعروف، من روَّاد المقاهي، ينقل أحمد أمين عنه عن أحد جُلسائه: "حتى إذا جنَّ الظلامُ خرجَ متوكئاً على عصاه إلى مقهى قرب الأزبكية، وجلس في صدر فئةٍ تتألَّفُ حوله على هيئةِ نصفِ دائرة"(١)
وهو في هذا تُلقى عليه المسائلُ في كل الفنون، فَيُجيبُ عن أدقِّها و أعوصِها بكلِّ سلاسةٍ وانتظام، كما يذكر أحمد أمين.
و لرمزية هذا المكان في خلق هذا الدفء ما يشكِّل إمكانيةً كُبرى في تمريرِ مشاريعَ ثقافيةٍ هائلةٍ في تغيير الوعي واستفادة العِبر من دروس التاريخ، وللمقاهي أدوار اجتماعية عُرفتْ في الوطن العربي عبر مراحل مُعيَّنة أثَّرت على التيارات السياسية وكانت تُعقد في العراق على سبيل الذكر لا الحصر المؤتمرات السياسية في المقاهي
وتكون مكاناً لتشاور النُّخب السياسية تنبثق منه الآراء التي تخلق مناخاً سياسيّاً و تنوِّر العقول و البصائر.
ولو أردنا الانتحاءَ جانباً في فضاءات الغرب القَصيِّ لنرى شيئاً من أثر المقاهي هناك وتأثيرها حتى على حقل الفلسفة، يقول عبدالسلام بنعبد العالي في كتابه (الكتابة بالقفز والوثب) أنَّ "أكبر "انتعاشة" عرفتها الفلسفة بعد "اكتمالها" عند هيجل لم تأت على أيدي من عهدنا تصنيفهم فلاسفة، ولم تترعرع في فضاءات الفلسفة المعهودة، وإنما انبثقت من المقاهي و النَّوادي"(٢)
١-فيض الخاطر، الجزء الخامس
٢-الكتابة بالقفز والوثب، عبدالسلام بنعبد العالي