أم المسلمين اليوم لصلاة الجمعة في المسجد الحرام إمام وخطيب المسجد الحرام معالي الشيخ الدكتور صالح بن حميد فتحدث في خطبته الأولى عن تهذيب الحلال لحياة المسلم وسلوكه فقال : هذب الإسلام غريزة حب المال في النفوس ، وأحاطها بسياج من الأحكام ، والأخلاق ، والآداب في الكسب ، والإنفاق ، والتمتع ، ليكون هذا المال وسيلة لتحقيق العيش الهاني الكريم .
ومن قواعد ذلك وضوابطه أن المال مال الله والإنسان مستخلف فيه ، فليس له فيه التصرفُ المطلق ، بل عليه أن يتصرف بمقتضى ما شرعه مالكه الحق ، وأمر به ، وأجازه ، وأحله ، لا فيما حرمه ، ونهى عنه ، ومنع منه :{وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} ولما جعل الله المال قياماً للناس تقوم به حياتُهم ، وحسنُ معاشهم شرط في التصرف فيه أن يكون صاحبه راشداً .
ومن الجوانب العظيمة التي أولتها الشريعة عنايتها واهتمامها بابُ الحلال والحرام من : طعام ، شراب ، ولباس ، وزينة ، وتطبب ، ودواء ، فشرع أن يكون كل ذلك حلالاً طيباً في الكسب ، والإنفاق ، والاستعمال بما يضمن حياة طيبة في الدنيا ، وسعادة أبدية في الآخرة .
لماذا كل هذا – يا عباد الله –؟ لأن من الثابت المتقرر أن سلوك الإنسان وأخلاقه يتأثران بما يدخل في جوفه ، وبما يخالط بدنه تأثراً كبيراً ظاهراً.
يقول بعض أهل العلم : من المشاهد أن الصالحين ، وأهل التقى والورع يكثرون حين يكثر أكلُ الحلال ، وتحريه ، والبعدُ عن الشبهات ، فكل ناحية كَثُرَ الحِلُّ في قوت أهلها كثر الصالحون فيها ، وعكسه بعكس ، ويدل على ذلك قوله سبحانه :{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} قال أهل العلم : إن تقديم الأكل من الطيبات على العمل الصالح تنبيه إلى أن أكل هذه الطيبات هو الذي يثمر العمل الصالح ، لأن الغذاء الطيب يَصلُح عليه القلبُ والبدنُ فتصلح الأعمال ، كما أن الغذاء الخبيث يفسد به القلب والبدن فتفسد الأعمال .
فطيب المطعم ، والمشرب ، والملبس ، والزينة ، والدواء له أثر عظيم في تزكية النفس ، وصفاء القلب ، وقوة البصيرة ، بل إن قبول العبادة ، وإجابة الدعاء مرتبط بأكل الحلال الطيب .
يقول الحافظ بن رجب -رحمه الله- : إن الرسل وأممهم مأمورون بالأكل من الطيبات التي هي الحلال ، وبالعمل الصالح ، فما دام الأكل حلالاً ، فالعمل الصالح مقبول ، فإذا كان الأكل غير حلال فكيف يكون العمل مقبولاً ؟؟.
وتحدث معاليه عن عجائب الشريعة في دقتها بالعناية بالمطعم الحلال فقال: ومن عجائب عناية هذه الشريعة المطهرة ودقائق تحريها الحلال في غذاء المسلم وطعامه وما يدخل إلى جوفه أن ما أحل له من الحيوان اعتنى بكيفية ذبحه ، وطريقة تذكيته ، فاشترط لذلك شروطا ، وسن سنناً ، وآدابا من : أهلية الذابح ، وكيفية الذبح ، من إنهار الدم ، وقطع الحلق ، والمريئ ، والودجين بآلة حادة ، والإحسان في الذبح ، والإحسان إلى الذبيحة، وحرم الميتة بكل أنواعها من : المخنقة ، والموقوذة ، والمتردية ، والنطيحة ، وما أكل السبع ، وما ذبح على النصب ، وما أهل به لغير الله إلا ما كان من حال الاضطرار غير باغ ولا عاد ، وغير ذلك من الأحكام والآداب الدقيقة من أجل ان يخلص للمسلم ما يدخل إلى جوفه .
وفي هذا العصر وما فيه من تقدمٍ محمود ، ومنافعَ سخرها الله ويسرها ، وقد دخل ذلك التقدم في صناعة الغذاء ، والدواء ، ومستحضرات التجميل وغيرها ، وما أحدثته التقنية العظيمة من تطور هائل مما أحدث تغييرات كبيرة ، وأنتج كثيراً من المواد ، والمشتقات ، والمعالجات الكيميائية في مكونات الأغذية ، والأودية ، وأدوات التجميل وغيرها ، مما يستدعي مزيدا من التحري في تحصيل الحلال الطيب .
اللقمة الحلال تدفع النقم ، وتصرف البلاء عن الأنفس ، والأموال ، والأولاد ، والأعمال ، والديار .
يقول سهل بن عبد الله : من نظر في مطعمه دخل عليه الزهد من غير دعوى .
ويقول ربيعة ابن أبي عبد الرحمن رحمه الله : رأس الزهد جمع الشيء من حله ، ووضعُهُ في محله .
وتأملوا ما يقوله أبو عبد الله الباجي الزاهد : خمس خصال بها تمام العمل : الإيمان بالله ، ومعرفة الحق ، وإخلاص العمل ، والعمل على السنة ، وأكل الحلال ، فإن فُقِدتْ واحدةٌ لم يرتفع العمل .
وذلك أن العبد إذا آمن بالله ، ولم يعرف الحق لم ينتفع ، وإذا عرف الحق ، ولم يؤمن بالله لم ينتفع ، وإذا آمن بالله وعرف الحق ، ولم يخلص العمل لم ينتفع ، وإن تمت الأربع ولم يكن الأكل حلالاً لم ينتفع .
وقيل للإمام أحمد : ما علاج مرض القلب ؟ قال كسب الحلال ، وقال بعض الصالحين : تلينُ القلوبُ بأكل الحلال .
ويقول إبراهيم بن أدهم : ما أدرك من أدرك إلا من كان يعقل ما يدخل في جوفه .
واختتم معاليه خطبته الأولى بنصح المسلمين بأكل الحلال والاستغناء عن الحرام فقال: استغنوا بالحلال عن الحرام ، وتوبوا من المظالم والآثام ، واجعلوا أموالكم سترا لكم من النار ، واصرفوها في مرضاة الله ، واكثروا من الصدقات تبلغوا رفيع الدرجات .
يا عبد الله : اتق الله بطاعته ، وأطع الله بتقواه ، وكفَّ يدك عن دماء المسلمين ، وبطنك عن أموالهم ، ولسانك عن أعراضهم .
فكلوا حلالاً وأنفقوا حلالاً ، واكسبوا حلالاً ، لتثبت أقدامكم يوم تزل الأقدام : ” لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة حتى يُسأل عن خمس : عن عمره فيم أفناه ، وعن شبابه فيم أبلاه ، وعن ماله من أين أكتسبه وفيم أنفقه ، وعن عمله ماذا عمل به “. رواه ابن ماجه في سننه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه بسند صحيح .
تحروا الحلال ، ابتعدوا عن المشتبه ، احفظوا حقوق العباد ، أنجزوا أعمالكم ، وأدوا أماناتكم ، أوفوا بالعقود وبالعهود ، اجتنبوا الغش والتدليس والمماطلة .
وتحدث معاليه في خطبته الثانية عن أصل الحلال وضيق دائرة الحرام فقال : من فضل الله على عباده أن دائرة الحرام ضيقة ، فالأصل في المطعومات ، والمعاملات ، وكل المنافع وطرق الكسب هو الحِلُّ.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كلمة جامعة : ” واعلم أن الأصل في جميع الأعيان الموجودة على اختلاف أصنافها ، وتباين أوصافها أن تكون حلالاً مطلقا للآدميين ، وأن تكون طاهرة لا يحرم عليهم ملابستها ، ولا معاشرتها ، ثم قال رحمه الله : وهذه كلمة جامعة ، ومقالة عامة ، وقضية فاضلة ، عظيمة المنفعة ، واسعة البركة ، يفزع إليها حملة الشريعة فيما لا يحصى من الأعمال ، وحوادث الناس ).
ولكن الإنسان بتقصيره ، وطمعه لم تسعه دائرة الحلال الواسعة ، فتراه يدخل ، دائرة الحرام بأكل الحرام ، من الرشوة والاختلاس ، والتكسب بوسيلة حرام من البيوع الفاسدة ، واللهو المحرم .
يا عبد الله الحياة قصيرة ، والزمن سريع الزوال ، فلا تطلب الرزق بمعصية الله ، وما أدى إلى الحرام فهو حرام .
بأكل الحرام تنزع البركات ، وتكثر الأمراض والعاهات ، وتحل الكوارث والأزمات ، ويفشو التظالم والشحناء .
ثم تحدث معاليه في ختام خطبته الثانية عن حد من حدود الله وعن تطبيق المملكة العربية السعودية تلك الحدود فقال : يقال ذلك عباد الله تذكيرا بما تعيشه بلادنا بلادُ الحرمين الشريفين المملكةُ العربية السعودية من أمن ، ورغد عيش ، واجتماع كلمة ، والتفاف حول القيادة الرشيدة .
بلادنا بفضل الله ، ومنته هي العزيزة بمقدساتها ، الثرية بقيمها ورجالها ، العالية بقدرها ومنجزاتها ، الآمنة – بحفظ الله – ثم بيقظة ولاة أمرها وحزمهم ، بساط الأمن فيها يستفز المرجفين ، والقوة والتماسك بين ولاة الأمر والمواطنين يزعج الطامعين والحاقدين ، والاعتماد على رب هذا البيت يرد عنا كيد الكائدين.
بحفظ الله ثم حكمة القيادة تَخِيبُ ظُنون المتربصين ، يقال ذلك أيها -المسلمون – حين أعلنت الدولة -أعزها الله- إقامة الحكم الشرعي على فئة فاسدة هاجموا بلادهم ، وقتلوا أهليهم ورجالهم ، وخفروا ذمة ولاة أمرهم ، وروعوا الآمنين , وأرادوا فتح الأبواب لتمكين المتربصين .
أعمال عنف ، ومسالك إرهاب من تفجير وتدمير ، وسطو ، وسفك للدماء وخروج على النظام ،وخيانة مع الأعداء والمتآمرين .
مفاسد عظيمة ، وترويع للأمنين ، ونقض للعهود ، وتجاوز على إمام المسلمين جرائم نكراء في طيها منكرات .
إنه موقف حازم تتخذه الدولة ضد الإرهاب ، والفوضى ، والفتنة في جهد أمني ، وحكم شرعي ، وقرارا سياسي .
وإن الناظر والمتأمل ليقدر – ولله الحمد – هذه الوقفة الشامخة الثابتة التي تقفها الأمة ضد أي تصرف مشين ، أو عمل إجرامي ، أو تشويش حاقد .
نعم إن الأمة تقف صفاً واحدا خلف قيادتها ، وولاة أمرها تستنكر أي عمل ، وتدين كل قول ، ولا تقبل أي مسوغ يريد أن ينال من هذه البلاد أو يشكك في مكانتها ، وحزمها ، وعزمها ، وحكمة قرارها .
إنها مأرز الإسلام ، ومنبع الخير ، وأمان الخائفين ، وعون المستضعفين ، يد حانية تداوي الجراح ، وتنطلق منها أعمال الإحسان ، وقوافل البر لكل أصقاع الدنيا.
يريدون النيل من دورها العظيم في محطيها العربي ، والإسلامي ، والدولي ، غير أن الدولة-أعزها الله- ومن ورائها المواطنون الكرام ، والمقيمون الأعزاء تقف من هذا الأحداث مواقف حازمة ، وتتعامل معها بمسئولية حماية للدين ، والمقدسات ، والدار ، والناس ، في يقظة ، وكفاءة ، وأداء حازم ، وتعامل دقيق مما يسجل إنجازات أمنية ، وقوة إدارية ، وحكم صارم في كل الظروف الزمانية والمكانية فلله الحمد والمنة.