قبل خمسين عاماً . طالباً في المرحلة الابتدائية النهائية . يبلغ من العمر الثانية عشر سنةً . ساكن في ضاحية من ضواحي الطائف الشمالية طريق الرياض . ضاحية الحوية ، ووالده يعمل قصاص اثر في ناحية من نواحي منطقة مكة المكرمة جنوباً . يبعد عن مكة المكرمة ما يزيد عن مائتين وخمسين كيلاً أو زد قليلاً او كثيراً .
يا سادتي تبدأ قصة هذ الطالب الذي لم يتجاوز عمره الثانية عشر من العمر . مازال غض العود ، طري العظم ، نحيل الجسم . سمات الطفولة تغلب عليه ، فحداثة السن سائدة معالمها عليه .
حينما طلب مدير المدرسة الابتدائية بالحوية ، أن يحضر الطلاب حفائظ ابائهم من أجل تعبئة استمارات المرحلة النهائية، فاستجاب الطلاب واحضروا المطلوب الا طالبان. أحدهما يتيم الأب والثاني (وهو موضوعنا) ، والده غير متواجد بالضاحية بحكم عمله خارجها بمنطقه بعيده، ولا توجد وسائل الاتصالات، ولا وسائل للتواصل، ولا طرق معبدة بين المناطق حينذاك ، وفي ظل تعاطف كبير من مدير ومدرسي المدرسة للحالتين تقديرا للظرف الأسري للأول، وكون الثاني متميزاً في الدراسة ، وفي الأنشطة غير الصفّية (الرياضية) وكان تعبئة استمارة إتمام المرحلة الدراسية يلزم ان يتم بموجب تابعية ولي امر الطالب ، ويصادق عليها من إدارة المدرسة ، وترفع لإدارة التعليم في تاريخ محدد وهو شرطاً لدخول الاختبارات النهائية، ويحرم ممّن لم يقدم ذلك، ولم يتمكنا الطالبان من استكمال هذا الشرط، الذي يقف حجر عثره في مواصلة التعليم لما لهذه الشهادة الدراسية من أثر بالغ على مستقبلهما.
يوم الثلاثاء كان يوم عسير وقاسي. إذ طوى في ثناياه خبراً غير سار .
استدعى مدير المدرسة الطالبان، وبلغهما بضرورة مغادرة المدرسة حالاً وان لا يعودا للدراسة الا مصطحبين توابع ابائهم، وتحديد يوم السبت القادم أخر مهلة لهما، وكانت تواريخ رفع الاستمارات للمراحل الدراسية النهائية من المدارس لإدارة التعليم بالمناطق محدده في تعليمات الوزارة، أخرِج الطالبان ومقر عمل والد الثاني بعيد وشاق ، والظروف صعبه (ماديا ومعنويا) لا تسعفه على تجشم السفر، والمهلة قليله، والتنقل بالسفر بين المناطق حينذاك مقيّد بإبراز الهوية او بمعرّف، ووسائل المواصلات البريه قليله، والطرق الموصلة للجنوب غير مسفلته، ولا يسلكها الاّ الناقلات الكبيرة لواري مرسيدس من نوع النقل الثقيل .
ذهب الثاني لمنزله فقابلته والدته مندهشة من عودته مبكراً ، وحزيناً على غير عادته فأخبرها بالأمر وممّا سمع من مدير المدرسة، واستأذن والدته مصراً على الذهاب لوالده، لعل الوقت يسعفه، ويحضر المطلوب ، ويتلافى طي قيده من المدرسة.
ناولته والدته خمس ريالات ورقية وهي كل ما تملكه ، ولا يوجد سواها، ودعت الله بأن يًسخر من عباده من يسهل طريقه، فذهب ماشياً لاعتراض الطريق المؤدي الى مكة، وهو طريق الرياض الطائف، ووجد زميله الذي أخرج من المدرسة واقفاً على جنبات الطريق، وكما أسلفنا انفاً بأن التنقلات مقيده الا بعد التثبت من الهوية، لوجود حوادث أمنيه ، ومحاذير استوجبت مثل هذه الإجراءات، واذا بسيارة يقودها صالح العبّادي ، وبحانبه مدرس التربية البدنية الأستاذ احمد باقارش يرحمهما الله فتوقفا عندهما ، وسألاهما اين وجهتكم فقال الأول : اريد الوصول إلى قريتنا بالهدا، وامّا الثاني فقال : اريد مكة المكرمة ، فاركباهما معروفاً منهما دون اجره يرحمهما الله رحمة واسعه، واوصلاهما، انزلا الأول بالهدا، والثاني عند قريبه بمكة المكرمة حي الخنساء، وكان هذا القريب يرحمه الله رجلاً طاعناً في السن ومقعد، لا يستطيع الحركة، وأخبره سبب مجيئه لطلب والده ، واحضار التابعية للمدرسة، فما كان منه يرحمه الله الاّ رفع همّته ، وشجعه بانه يعرف قدرته وجرأته للسفر لوالده ، وعدم الركون لأي موقف يعترض اكمال دراسته، وقال : تصرف ..تصرف .. انت ولدنا ننظر لك رجلاً كالرجال ، وأنت ثمرة رجاء وأمل والديك ، والدراسة علم ، ومفتاح المستقبل ، وسيعينك المولى إذاً صبرت واحتسبت ، والمستقبل الزاهر ينتظرك بعد ان تنهي مراحل دراستك.
هذه الكلمات كأنما وقعت في أقصى سويداء قلبه، وشجعه على السفر ، وتجشم وعثائه من أجل العلم وطلبه دراسياً ، وغلبه الحياء على الصبي ان يطلب مالاً يعينه على سفره ، فأمر قريبه أحد أبناءه وهو الأوسط منهم . بأن يرافقه ليدله على موقف سيارات الأجرة (التاكسي) بالخرمانية حتى يركب لمحطة سيارات الجنوب بحداء بين بحرة ومكة المكرمة ، وبعد خروجه والسير بالشارع واذا به يعثر على نقود ورقية مربوطة بمطاط وبالقرب من بائع ليمون متجول كبيرا في السن كان مسترخياً بظل احد العمارات الشاهقة فوطأ الصبي على الفلوس ، وناولها للبائع والذي ينظر اليه مندهشاً، فقال :الصبي يا عم هذه لك!!! فقال (لا) وصار يردد لا اله الا الله.. و والله يا ولدي من اليوم وانا هنا ولم اراها وهذا رزق ساقه الله لك، فمسكها ودفعها في جيبه، وواصل السير، وعدّ النقود فاذا هي خمس وثلاثون ريالاً ، فلما وصل محطة سيارات الأجرة. رفضوا اركابه لوجود التعليمات المتشددة بتقييد حركة تنقل مجهولي الهوية كحالته وإيقاع اقصى العقوبات على المتجاوزين لذلك، ومن توفيق الله، كانت البلدية تصدر دفاتر من نسختين وتبيعها بمبالغ رمزيه لطلبة المدارس المتوسطة او الثانوية ومهتم إثبات تسجيل بهذه الدفاتر معلومات الركاب ، والسائق والسيارة، فوجد ان من يقوم بهذه المهمة احد معارفه وممن كانت أسرته تقضي الصيف بالطائف حي هذا الصبي، فتعرف عليه وشرح له ظروف سفره، فقال أبشر وقام ليُصدر كشوف للسيارات، فاستقبله بحراره وشرح له الغرض من السفر ، فعرّف عليه وأضاف اسمه بكشف احد السيارات وأوصى سائق التاكسي بان يوصله إلى محطة الجنوب المتعارف عليها بحداء، وأيضاً اجرة التاكسي دفع قيمتها ، فوصل إلى المحطة ووجد أكثر من سيارة من نوع مرسيدس لوري نقل ثقيل ( كانت وسيلة النقل الوحيدة في ذلك الوقت)، فدار على سائقيها جميعاً ، ورفضوا اركابه خوفاً من المسئولية عن مخالفة النظام لصغر سنّه، فذهب وانزوى بأحد أركان القهوة، محطماً لكونه أصبح لا يستطيع مواصلة الرحلة ، ولا العودة، وأخذ ينظر بحسره للمنتظرين من الركاب في القهوة ، فاذا برجل توسم الخير فيه جالس، وبراد الشاهي عنده ، وبعض قطع بسكويت أبو ميزان، فتبادلا النظر ثم دعاه ذلك الرجل للجلوس وسكب له فنحالاً من الشاهي، وناوله قطعة من البسكويت ، وسأله ما سبب حزنه، فسرد له الصبي قصته ، وسبب سفره ووجهته ، وامتناع أصحاب السيارات من اركابه، فتعاطف الرجل معه ، ودخلت الرحمة قلبه ، والنخوة وجدانه ، وصار يهون من أمره ويبادله أطراف الحديث، ليهون عليه الموقف، وقال : أبشر أنت خويي ورفيقي وحين تم النداء على المسافرين بركوب السيارات، اخذ الصبي بيده، إلى سائق الشاحنة، وقال : معي راكب ، وبعد نقاش وجدال طويل بين السائق والراكب (صانع المعروف)، وافق السائق ودفع عنه الأجرة أيضا ، وكانت بمبلغ عشر ريالات للراكب النفر على اعلى الحملة المكشوفة، وكان الطريق غير معبد، ومن الخبرة السائقين يلزم عبورهم لمناطق الرمال المتحركة ليلاً ، وقبل شروق الشمس، حتى لا تسبب حراره الجو في تحرك الرمال مما يجعل السير فيها صعباً للغاية، وعندما حان وقت صلاة الظهر ليوم الأربعاء ، الا وبه يصل الى مكان عمل أبيه ، وينظر إلى والده حاملاً إبريق الوضوء لصلاة الظهر، فوادع رفيق دربه ومسهل رحلته وصاحب المعروف عليه، فنادى على والده الذي اندهش ودفع بإبريق الوضوء ارضاً دون ان يشعر من هول المفاجأة بقطع هذه المسافات ووصول ابنه له معافاً، فتعانقا الاثنان وحضن الاب ابنه ، وما ان سمع رئيس والده بالخبر، ومعرفة سبب مجيء الأبن لأبيه محتشماً هذه الصعاب، غير المؤهل لها، فأولم بشاة كرامة للأبن ، وأذن لوالده بالسفر برفقة ولده حرصاً على مستقبل الأبن وحتى لا تنتهي المهلة ، ويحرم الصبي من دخول الاختبارات النهائية، وتعجل بتقديم الغداء لهما، وساعدهما بان دعى سائق البريد للغداء من أجل ان يرافقه الصبي ووالده إلى مكة، وفعلاً سافرا وفي صبيحة يوم الخميس واذاهما بمنزلهما بالحوية ضاحية الطائف فما غفق ولا غمض جفن عين للأبن ، مع شروق فحر السبت فصلى صلاة الفجر في جماعة المسجد ، وقد فرغت والدته من إعداد الإفطار ، فتناول و الإفطار على عجل ، وذهبا للمدرسة سوياً ، وانتظر والده بإدارة المدرسة حتى حضر مدير المدرسة ، واستهل مدير المدرسة حينما شاهدهما بمكتبه هاشاً باشاً ، ومرحباً بهما وتم تعبئة الاستمارة من واقع الحفيظة، واستودعهما مدير المدرسة شاكراً الصبي على جسارته، وإقدامه ، وتم تبادل كلمات الثناء من المدرسين للطالب امام أبيه ، وشكروا والده على حسن تربيته، ومتنبئين لهذا الصبي بمستقبلاً باهراً .
يا سادة من واقعة هذا الصبي كيف يسر الله امره بدعاء والدته وصخر له عباده ان المعروف لا ينعدم من أمةً محمد عليه أفضل الصلاة والسلام بداية من مدير المدرسة ، وأعضاء التدريس ، والمعلمين الذي اخذهما من قارعة الطريق وقريبه والرجل الذي سهل ركوبه من مواقف التكاسي بالخرمانية بمكة المكرمة ودفع تكاليف احرته والرجل الذي بمحطة الجنوب بحداء ودفع عنه تكاليف الركاب عاد الصبي لمنزله ، ومازالت أربعين ريالاً خمس ريالات والدته ،وخمس و ثلاثين ريالاً الملقاة على الأرض ، معه دون ان يحتاج صرف ريالاً واحداً منها. فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده .
امن سلك طريقاً للعلم سهل الله له طريقاً للجنة سوى جنة الأخرة او الدنيا هذا الأبن مسك بوصية ذلك المسن بان الدراسة مفتاح المستقبل والعلم، ومنحه الإصرار والجد والاجتهاد واجتاز جميع مراحل التعليم بشطريه العام والعالي حتى حصوله على درجة الدكتوراه، متقلبا بين اعلى المراتب (الإدارية و الاكاديمية) ولا يزال عطائه مستمراً، وقد رزقه الله بالزوجات الصالحات والابناء جميعهم متفوقين ومنهم الأطباء وذوي التخصصات النادرة. ومما دفعني لسرد هذه الواقعة لما فيها من العبر والاعتبار، وان الإصرار ومكابدة أعباء الحياة سر النجاح والتفوق .
ولقد صدق الشاعر :
لن تنال المجد حتى تلعق الصبر .
من جد وجد .. ومن زرع حصد
الشدائد مدرسة الحياة ، وصانعة الرجال .
- أمير منطقة حائل يستقبل وزير السياحة
- إدارة تعليم المذنب تحتفي باليوم العالمي للطفل
- حرس الحدود بجازان ينقذ مواطنين تعطلت واسطتهما البحرية في عرض البحر
- تنفيذ حكم القتل تعزيراً بعدد من الجناة لارتكابهم جرائم إرهابية
- النيابة العامة تعلن عن تدشين “غرفة الاستنطاق المخصصة للأطفال”
- «الحياة الفطرية» تطلق 26 كائناً مهدداً بالانقراض في متنزه السودة
- تستمرّ للثلاثاء المقبل معلنة دخولَ الشتاء.. جولة مطرية جديدة يصحبها انخفاض بدرجات الحرارة بمعظم المناطق
- لاستبدال 250,000 مكيف.. “موان” يعلن إطلاق ثالث مراحل مبادرة “استبدال”
- «الجنائية الدولية» تصدر مذكرتي اعتقال لنتنياهو وغالانت
- “حساب المواطن” يعلن صدور نتائج الأهلية للدورة 85 لشهر ديسمبر القادم
- من مخاطر داخل المنزل تهددهم.. “المدني” يؤكد أهمية المحافظة على سلامة الأطفال
- “الهيئة العامة”: كود الطرق وضع معايير وشروط لتصميم وتركيب مطبات السرعة
- بوضعية خارج الرحم.. “سعود الطبية” تنقذ جنينًا بحالة حمل نادرة في الأسبوع الـ26
- «الطيران المدني» يُصدر تصنيف مقدِّمي خدمات النقل الجوي والمطارات لشهر أكتوبر الماضي
- الزكاة والضريبة والجمارك تدعو وسطاء الشحن إلى الاستفادة من الخدمات الجمركية المقدمة في المنافذ البحرية
خالد بن حسن الرويس
خمس الريالات الورقية
09/03/2022 4:40 م
خالد بن حسن الرويس
1
271983
(0)(0)
وصلة دائمة لهذا المحتوى : https://www.adwaalwatan.com/articles/3493353/
التعليقات 1
1 pings
ابو فهد
11/03/2022 في 10:17 ص[3] رابط التعليق
تعلمنا من بطلنا صاحب الخمسه ريالات
حيث نتعرّض لمواقف كثيرة؛ والكن بعد توفيق الله وعاء الوالدين صخر الله له
عباده من معلمه الى صاحب الشاهي والبسكويت وتسهيل الصعاب من اجل تكميل تعليمه
لنحرج بقصه فيها الكثير من العبر .
(0)
(0)