أم المسلمين اليوم لصلاة الجمعة في المسجد النبوي فضيلة إمام وخطيب المسجد النبوي الشيخ الدكتور عبدالباري الثبيتي، واستهل فضيلته خطبته الأولى عن التقنية وتسببها بالأمراض النفسية والعصبية فقال : لكل عصر خصائصه وسماته التي ينفرد بها عن غيره من العصور؛ ولقد خطت البشرية في زمننا خطوات شاسعة في عالم الصناعة والتقنية؛ فقربت المسافات، وذللت كثيراً من الصعوبات، وسهلت بلوغ المعارف والعلوم.
بلغت الحياة المادية أوجها، لكنها لم تشف غليل النفس، ولم تشبع رغباتها المتناسقة مع طبيعتها التي خلقها الله عليها؛ فتزعزعت النفس، وقسا القلب، وانحسر معنى التوكل واليقين والرضا، وتسلل إلى النفس الهم والقلق، وخيم عليها الحزن؛ ساهم في ذلك إيقاع الحياة المتسارع، وأحداثها المتلاحقة، وتقنياتها المذهلة، والتنافس المحتدم بين البشر والمجتمعات، وغدا الهم والقلق سمة هذا العصر، وانجر هذا إلى الخوف على الرزق والصحة والأولاد والوظيفة، وضعفت مناعة النفس، ولم تعد تقدر على مواجهة صروف الحياة من مشكلات مالية، أو فقد أحبة، أو فوات غنائم، أو تعرض لخسارة؛ فشاعت الأمراض النفسية والعصبية.
وتحدث فضيلته عن خطر الهموم إذا تمكنت من الإنسان فقال : هذه الهموم إذا تمكنت من المرء فإنها تعيق انطلاقه، وتشتت أفكاره، وتشل حركته، وتنخر في جسده، وتفسد عليه ابتهاج حياته، وتحشره في نفق الكآبة والاكتئاب؛ فتحيل حياته ضنكا، وعيشه نكدا.
وإذا اتسعت مساحة الهم؛ فإنه يكسر من النشاط في الطاعة، ويقبض من عنان جواد سعي المسلم إلى مراضي الله عز وجل.
عالج الإسلام القلق والهم والحزن، وأسس لمبادئ تقي من الوقوع في براثنه، وسد منافذه، وحمى النفس البشرية بمنهج يحقق لها الحياة الطيبة، والسعادة في الدنيا.
علمنا الإسلام بادئ ذي بدء أن حياة الإنسان لا تخلو من بواعث الهموم؛ في رحلة يكابد فيها الشدائد، ويواجه المصاعب، وتتقاذفه المكدرات؛ قال الله تعالى:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}.
ثم تحدث فضيلته عن هموم أصابت الأنبياء فقال: كانت دواعي المحن والهموم حاضرة في حياة الأنبياء: فمنهم من ابتلى بالمرض، ومنم من ابتلي بالفقر، ومنهم من ابتلي بفقد عزيز، ومنهم من ابتلي بالتكذيب والطرد: بل هم أشد الناس بلاء؛ ولقد رأى رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- من صنوف البلاء ما تضعف معه النفوس، وتخور العزائم، وقد قال: (لقد أوذيت في الله وما يؤذي أحد، ولقد أخفت في الله ومايخاف أحد، ولقد أتت علي ثالثة وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد، إلا ما وارى إبط بلال)، رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد بإسناد صحيح.
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجرا واختبأ في غار ثور؛ وقد سل المشركون
سيوفهم في طلبه؛ حتى بلغوا الغار؛ ويصف الموقف أبو بكر رضي الله عنه: (قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا ) وهذا موقف يثير الهلع ويجلب الخوف، ويبلغ القلق فيه مبلغه، والهم منتهاه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟!)ـ رواه البخاري ومسلم.
واختتم فضيلته خطبته الأولى بالحديث عن الهم المحمود فقال : ولا يغيب عن الأذهان أن هناك هما ليس كغيره من الهموم؛ هم محمود؛ يزيل كل الهموم، ويمسح الأحزان، ويجمع شتات الأمر، ويفيض سعادة لا تنقطع، وطمأنينة لا تندثر، وأنسا لا يجارى؛ إنه هم الآخرة؛ الذي يشرح الصدر، ويريح النفس، وإذا ملأ هم الآخرة الحياة واستولى على الفكر؛ أزاح كل الهموم المذمومة، وحقرها وضيق منافذها؛ وهنا يصفو بال المسلم، ويتسامى عن الترهات، ويسمو إلى المعالي؛ فعن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كانت الآخرة همه، جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة) أخرجه الترمذي وصححه الألباني.
وتحدث فضيلته في خطبته الثانية عن مايسكن الطمأنينة في القلوب فقال : ومما يسلي المهموم، ويسكب الطمأنينة في قلبه؛ تفضل الله ورحمته في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المسلم، من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه) رواه البخاري من حديث أبي هريرة.
والمسلم المبصر يقي نفسه من آفات الهموم، وآلام الغموم بالإحسان في الصدقات، ورفع كرب المكروبين من الفقراء والضعفاء والمساكين، فإن من فرج كربة مسلم فرج الله كربه؛ قال الله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}.