أم المسلمين اليوم لصلاة الجمعة في المسجد الحرام فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور فيصل غزاوي، فتحدث في خطبته الأولى عن فقه القرب والبعد فقال : إن المؤمن العاقل الحصيف يُقبِل على الخير وما يُعِيْنُه عليه، ويحرص على ما يُرضي ربه ويقربه إليه، ويجتنب الأعمال التي تبعده عن مولاه، ويحذر قربان ما يكون له خسارة في دنياه وأخراه.
ومن الفقه أن يكون المرء على بينة من أمره؛ يعرف متى يكون القرب من الشيء نافعا مفيدا فيدنو منه، ومتى يكون القرب من الشيء ضارا غير مفيد فينأى عنه.
إن أعظم القُرْب القربُ من الله، وقد امتدح الله الذين يتنافسون في القرب منه مبينا حالهم بأنهم: (يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ) وقال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) يعني أن غيرهم دونهم في القرب من الله تعالى.
ومما هو معلوم أن مراتب القرب من الله تعالى تختلف بحسب رتبة المقرَّب، فالملائكة -عليهم السلام- شرَّفهم الله بالعبودية له وجعلهم مقربين كما جاء في وصفهم بأنهم: (الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ)، والأنبياء والرسل جميعا سادة المقربين، وقد وصف الله نبيه عيسى -عليه السلام- بكونه (وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)، وأما نبينا محمد -صلى الله عليه وسلّم- فهو أقرب المقربين إلى الله تعالى وأعلاهم منزلة عنده.
وتحدث فضيلته عن عبادات تقرب العبد إلى الله فقال : على العبد أن يتعلم ما يقربه إلى الله ويجعله عزيزا عنده؛ فثمة عبادات مشروعة تكون سببا في قرب العبد من ربه، فالتوبة إلى الله من أجَلِّ ما يقرِّب المرء إلى مرضاة الله ويبعده عن مساخطه كما قال نبي الله صالح عليـه السـلام لقومـه: (فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ) أي إن ربي قريب ممن أخلص له العبادة ورَغِب إليه في التوبة، مجيبٌ له إذا دعاه.
والإحسان ذروة الأعمال وخير مكانة يتبوأها العبد، وبه يعظم قربه من ربه (إنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِين)، قال ابن القيم رحمه الله: “حظُّ العبدِ من القرب من الله على قدر حظه من مقام الإحسان، وبحسبه تتفاوت الصلاة حتى يكون بين صلاة الرجلين من الفضل كما بين السماء والأرض، وقيامهما وركوعهما وسجودهما واحد.”
ومِن أعظم ما يورث القرب من الله ذكر العبد لربه، فعلى قدر ما يذكره يكون قربه منه؛ ففي الحديث القدسي يقول الله تعالى: (أنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إذا ذَكرنِي).
ومما يتحقق به القرب من الله أداء الفرائض والإكثار من النوافل ففي الحديث القدسي يقول الله تعالى: (وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّه)، ومن أجلّ الفرائض التي يتقرب بها العبد إلى الله الصلاة والسجود لله تعالى؛ لذلك أرشد الله نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) فقوله (واسجد) اهتماما بالصلاة، وعطف عليه (واقترب) للتنويه بما في الصلاة من مرضاة الله تعالى بحيث جعل المصلّي مقترباً من الله تعالى، وقال ﷺ: (أقربُ مَا يَكونُ العبْدُ مِن ربِّهِ وَهَو ساجدٌ، فَأَكثِرُوا الدُّعاء) فالسجود يحكي غاية الخضوع والتواضعَ وتركَ التكبر وكسرَ النفس لله تعالى، فإذا سجد العبد لله فقد خالف هواه وقرب من مولاه ودنا من رضاه، ولذلك أرشد صلى الله عليه وسلم من سأله مرافقته في الجنة بقوله: (فأعني على نفسك بكثرة السجود) وفيه الحث على كثرة السجود والترغيب فيه والمراد به السجود في الصلاة.
وحث فضيلته المسلمين على التواصل والتقارب وعدم القطيعة فقال : من محاسن الشريعة الغرّاء أنها دعت إلى التواصل والتقارب والتكافل والترابط بين المسلمين، ليكون حسن العلاقات بينهم موصولا، وحبل المودة بينهم ممدودا.
وأجدر الناس بذلك الأهل والأقارب والأرحام، لكن مما يؤسف له ما نجده في الواقع من خلاف ذلك فقد ظهر اﻟﺘﻨﺎﻓﺮ والبغضاء واﻟﺘﺒﺎﻋد والجفاء واﻟقطيعة والعداء ﺑين كثير من هؤلاء؛ فضعفت العلاقات ووهَنت الصلات، وقلّ التواصل والزيارات فنتج عن هذه الآفات: أن هُجر من هجر من القرابات، ولم يُعمل على مواساتهم في شتى الأحوال والمناسبات، وأهمل الضعفاء وذوو الحاجات، وحرموا حقهم من السؤال والتراحم والعطايا وإقالة العثرات، وأين هذا مما أرشد الله إليه بقوله: (وآت ذا القربى حقه …) فأمر سبحانه بإيتاء ذي القربى؛ لقرب رَحِمه، وهو أولى من أُعطي من الصدقة كما ثبت في الحديث: (الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي القرابة اثنتان صدقة وصلة).
وكلما كانت صلة القرابة أقوى كان تعزيز الروابط الاجتماعية والتقارب أدعى؛ فبرُّ الوالدين من أجلّ الطاعات التي تقرّب العبد من ربه، فهما أحق الناس بالقرب والصحبة والإحسان والسعي في خدمتهما وتفقد أحوالهما ورعاية شؤونهما. وفي المقابل فقرب الوالدين من أبنائهم وبناتهم من وسائل استصلاحهم بمحبتهم والحنو عليهم ومجالستهم وتأصيل تعاليم الدين وقيم الفضيلة في نفوسهم ومتابعة سلوكهم وأخلاقهم وبذل النصح لهم والخوف عليهم أن يَبْعُدوا عن الجادة فينحرفوا عن الصراط المستقيم.
ومما ينبغي مراعاته لدى الآباء والأمهات والمربين مضاعفة الاهتمام والعناية بالصغار بمخالطتهم وغرس المبادئ السامية والسلوكيات الحميدة والأخلاق الفاضلة في نفوسهم ومؤانستهم وملاعبتهم وممازحتهم وشغل أوقاتهم بأشياء مفيدة نافعة؛ لإخراجهم من الواقع الذي يجعلهم أسرى للتقنيات الحديثة والبرامج الإلكترونية التي أولعوا بها وصارت تعمل على تربيتهم وتكوين ثقافتهم بل والتحكم في مشاعرهم وطريقة تفكيرهم.
ومن العجب العجاب أنه على الرغم من أن التقنية الحديثة والتقدم الكبير في الاتصالات، سهلت لنا بحمد الله التواصل مع الآخرين وقربت لنا البعيد وتيسر من خلالها إنجاز الأعمال وقضاء الحوائج بأقل جهد ووقت، إلاّ أنها في المقابل كانت سببا في التباعد الأُسْري وتقطع الأواصر الاجتماعية؛ فكم من أسرة يجمعهم مكان واحد ولكنهم متفرقون، فيخلو كل فرد بنفسه في البيت أو ينفرد حال اجتماعهم منشغلا بهاتفه المحمول أو جهازه التقني يتتبع بشغف مقاطع مرئية أو مسموعة أو يبعث رسائل عبر برامج التواصل المختلفة، أو يتصفح المواقع أو يستغرق وقتا طويلا في اللعب بالألعاب الإلكترونية وربما واصل السهر من أجلها، فينبغي لنا أن ننتبه لذلك ونعالج أمرنا ونستدرك حالنا.
واختتم فضيلته خطبته الأولى بالحديث عن الطاعات الموصلة للجنة فقال : إن الطَّاعاتِ مُوصِلةٌ إلى الجنَّة، والمعاصيَ مُقرِّبة مِن النَّارِ، قال عليه الصلاة والسلام: (الجنَّةُ أقربُ إلى أحدِكم من شراكِ نعلِه، والنَّارُ مثلُ ذلِكَ) لذا فمعرفة ما يقرب من الجنة ويباعد من النار من أهم المطالب، وهذا ما حرَص عليه الصحابة رضي الله عنهم؛ إذ كان أحدهم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “أَخْبِرْنِي بِمَا يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ”، فيجيبه صلى الله عليه وسلم بقوله (تَعْبُدُ اللهَ، وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزكاة وتصل الرحم).
وتحدث فضيلته في خطبته الثانية عن مايبعده عن الله فقال : وكما أن العبد يحرص على ما يقربه من ربه فعليه أن يبتعد عما يَشينه ويسوؤه وأن يكون بعيدا عن كل ما يوقعه في المحرمات الصغائر منها والموبقات فقد حذر الله آدم وحواء عليهما السلام بقوله عز وجل: (ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) لكن الشيطان أغواهما فأكلا منها فكان ما كان من شأنهما، وقد جاءت الأدلة المتكاثرة في النهي عن قربان بعض الكبائر لأن قربانها قد يؤدي إلى الوقوع فيها كقوله تعالى: (والرجز فاهجر) والمعنى داوم على هجر الأصنام والأوثان وأعمال الشرك كلها؛ فلا تقربها وابتعد عن كل ما يلابسها، وقوله تعالى: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور) أي فابتعدوا عن عبادة الأوثان وطاعة الشيطان واتقوا قول الزور كمِثْل ما افتراه المشركون باتخاذهم آلهة لتقربهم من الله منزلة بزعمهم قال سبحانه: (والذين اتخذوا من دونه أولياء، مَا نَعبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، أما المؤمن فيحذر الشرك والكذب والزور ويبتعد عما لا قربة له فيه ولا طاعة، قال الله في وصف عباد الرحمن: (والذين لا يشهدون الزور) ويدخل في ذلك كما ذكر العلماء الشرك وعبادة الأصنام والفسق والكذب والباطل ومجالس السوء والخنا وأعياد المشركين والمناسبات البدعية.
ومما نهى الله عن قربانه كذلك ما جاء في قوله تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا) فنهى عن الزنا وعن مقاربته وهو مخالطة أسبابه ودواعيه، وقولِه جل شأنه: (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) أي لَا تقربوا الذنوب العظام المستفحشة، ما كان منها ظاهرا وما كان منها خافيا، وهذا يتناول النهي عن مقدماتها ووسائلها الموصلة إليها.
واختتم فضيلته خطبته الثانية بنصح المسلمين باغتنام الفرصة في طاعة الله والتقرب اليه فقال : إن الواجب علينا أن نغتنم أعمارنا في طاعة ربنا حتى لا نتحسر عند موتنا على ساعة مضت من عمرنا لم نتقرب فيها إلى بارئنا، ولنعلم أن في قربنا من ربنا ونيلِ المكانةِ عنده والمنزلةِ والحظوة، سعادةَ الدنيا والآخرة، وفي البعد عنه أكبرَ خسارة وأشدَّ ندامة وأعظمَ شقاوة، كما علينا أن نحذر أسباب البعد عن الله والطرد من رحمته والهلاك فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه صعد المنبر فقال: آمين آمين آمين. وبين للصحابة سبب تأمينه فقال: (أتاني جبريل عليه السلام فقال: يا محمد، من أدرك أحد والديه فمات فدخل النار، فأبعده الله. قل: آمين. فقلت: آمين. قال: يا محمد، من أدرك شهر رمضان، فمات، فلم يغفر له، فأدخل النار، فأبعده الله. قل: آمين. فقلت: آمين. قال: ومن ذكرت عنده فلم يصل عليك، فمات فدخل النار، فأبعده الله. قل: آمين. فقلت: آمين) وفي رواية: فأبعده الله وأسحقه .