مصطفى محمود الذي ملأَ الفضاءَ المعرفيَّ بعوالِمه العجائبيةِ، وخوضِه بكلِّ بحار المعرفة، فتجِدُهُ مَرَّةً بينَ معاملِ الكيمياءِ، يحلِّلُ العناصرَ ويربطُها بأسرارِ الوجودِ، ومرةً تُطالِعُه يتناولُ مسائلَ الفلسفةِ بكل أبعادِها مُرجِّحاً وباحثاً عن الحقيقةِ الفلسفيةِ، لِتَتَمَاهى مع حقائقِ الوجودِ، وأخرى ثالثةً ذاتَ أهميةٍ عندما يلِجُ الجغرافيا السياسيةَ ليتنبأَ بأحداثٍ في المسرحِ الجيوسياسي، وهكذا في سباقٍ لا يتوقَّف.
أُوتيَ مصطفى محمود مِسحةً أدبيةً جعلتْ لِكلِّ ما يَخُطُّه بيمينه من كتاباتٍ رواجاً في الأوساطِ الثقافيةِ، وإثارةً للجدلِ في الأوساطِ الدينيةِ لينبريَ له كبارُ العلماءِ ردّاً على بعضِ آراءه في آياتٍ فسَّرَها أو قضايا دينيةٍ تَعرَّضَ لها، ولنْ أسلُكَ بِكُمْ مهامِهَ الردودِ والردودَ على الردودِ، ولكنَّني سأذهبُ إلى حيثُ التكوينِ الثقافيِّ والمعرفيِّ وكيفَ يُستخلَصُ من هذا النَّهمِ الذي عُرِف به في مطْلعِ صِباه ويُستفادُ من تجرِبتِه فيه، وأَمْرٌ آخرُ لعلَّه موجودٌ في كلِّ زوايا العالمِ اليومَ وهو تلك المقاطعُ المرئيةُ التي يستعرِضُها في برامجه، ويُعِّلقُ عليها وهذه فيها شروحاتٌ مُتعدِّدَةٌ عَنْ وظائفِ الأعضاءِ والخلايا ودورِها في الجسم وعن الفيروسات والميكروبات، وعن الكون بمجراته والأجرام السماوية، وهذه عندما تُصبَغُ بصِبغةٍ أدبية تزيد الأيمانَ في قلبِ المُسلمِ وتُعرِّفه دِقةَ التدبير الإلهي في نفسِه وفي الكون من حولِه، قال تعالى: (وَفي أَنفُسِكُم أَفَلا تُبصِرونَ)
أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ قَتادَةَ في تفسير هذه الآية قالَ: "مَن تَفَكَّرَ في خَلْقِهِ عَلِمَ أنَما لُيِّنَتْ مَفاصِلُهُ لِلْعِبادَةِ".
كلُّ شيءٍ فيه معنى كلُّ شيءْ
فَتَفطَّنْ واصرفِ الذِّهنَ إليّ
يَذْكُرُ السيِّدُ الحرّانيُّ في كتابِه مذكراتِ مصطفى محمود
عندما زاره في منزِلِه قائلاً: "استغللتُ انشغالَ الأسرةِ معه لِأطوفَ في صومعتِه الخاصة، التي لم تتجاوز ٨٥ متراً، … وجدتُ صعوبةً شديدةً في التَّحرُّكِ داخِلَ أرجاءِ صومعتِه، بِسببِ تِلالِ الكتبِ المتراميةِ، والتِي كَادتْ تُخفي معالمَ الجدرانِ البيضاءِ، والتي يتَّضِحُ من شكلِها أنَّها كانتْ رفيقتَه الوحيدةَ طوال هذه الفترة".
لا أجدُ مزيدَ تعقيبٍ على هذه العِبارةِ، فهي تُفْصِحُ عن نفسِها وتُجادلُ عنْ أصالةِ تصدُّرِها، فلا بروزَ ولا تأثيرَ إلا بجمعِ هذه الأسفارِ والانكبابِ عليها، وتفليَتِها واستنطَاقِها
فهي الصامتةُ بل الناطقةُ لِمَنْ أعملَ عقلَه ودَمَهُ واستنزفَ وقتَه معها، فالمعارفُ لا تأتي إلا لِمن أتاها وطَرَقَ المُوصدَ من الأبوابِ حتى تُفتحَ له.
ومنها يقول الحرَّاني أنَّ مصطفى محمود في بواكير عُمُرِه، كان يقضي يومياً من خمس إلى سِتِّ ساعاتٍ في مكتبةِ البلديةِ في طَنطا، يقرأُ في مختلفِ المجالاتِ، ويذكرُ أنَّ نشأتَه لم تكنْ عاديَّةً، كان يقرأُ وهو في الثامنةِ كتاباتِ داروين، وشبلي شميل، وسلامة موسى.
وهذا سرُّ تنوعِ نتاجه المتعدِّد، وغَنَاءُ بحوثِه العِلميةِ
والأدبيةِ.
سالم صعيكر البلوي