كلَّما أكثرتَ من الرحلات والجولات في المدن والقرى والأرياف والصحاري والبلدان الكثيرة؛ سوف تتقن لغة جديدة ليست في الكتب التي كنا ندرسها.. لغة يمكن أن تتخاطب بها مع هذا الجدار وذا الجدار، ومع هذا الحصن وهذا السد، وتلك القلعة والبئر المعطلة، وذاك القصر المشيد في قفر من الأرض. يا لها من لغة تجمع بينك وبين المكان الذي أنت فيه، والمكان والزمان الذي لم تكن أنت فيه.
* مررت شخصيًا بهذه التجربة الفذة في أكثر من مكان؛ ففوجئت أن ما حولي من أمكنة تتحدث إليَّ بلغة ليست غريبة عليَّ؛ وأن ما يلف هذه الأمكنة من أزمنة؛ هي قريبة مني وأنا قريب منها كما لم أكن أتوقع. جربوا الاقتراب من آثار الإنسان وحضارته في أي بقعة كانت من هذا العالم، لتكتشفوا أنكم أقرب إليها مما لم يكن في الحسبان.
* هذا بعض من جدلية كانت وما زالت قائمة. ما من شك؛ في أن الجدلية في شأن العلاقة بين (الإنسان والمكان والزمان) سوف تظل قائمة إلى ما شاء الله. لكن المسلَّم به ابتداءً؛ أن الحياة في هذا الكوكب؛ قائمة على هذا الثلاثي العجيب الذي أراده الله عز وجل بهذه الصورة التلازمية، القائمة على البناء الذي يجسد الحياة في حد ذاتها، وأن عماد هذا كله هو الإنسان، الذي جعله الله خليفة له ليعمِّر الأرض (المكان)، ويخلد بفعله هذا (الزمان) المرتبط به على الدوام.
* لولا هذا الإنسان العجيب؛ لما قامت حضارة على وجه الأرض. ما كنا شاهدنا أي أثر للبناء والتعمير؛ مما يسهم في خلق مُناخ مناسب لحياة البشرية، في زراعتها وصناعتها ومأكلها ومشربها وصحتها وإبداعاتها وفنونها وحياتها بشكل عام. إذن.. الإنسان هو الفاعل الأول في هذا البناء الحضاري الذي ينهض بتنمية (المكان)، وبموجبه يخلد (الزمان)، تسليمًا بما أراد له الله من رسالة ودور على الأرض. ولكن.. تظل هناك إشكالية تتعلق بهذا الإنسان الذي يُنمي ويُخلد على مرَّ التاريخ، بحيث يطور من حاله، ويظل قائمًا بدوره الحضاري كما ينبغي.
* هنا تأتي مسألة بناء الإنسان للإنسان نفسه. صحيح أن ملَكة الإبداع والابتكار كانت وما زالت حاضرة في المخيلة الإنسانية، ومنها ظهرت عناية الإنسان بنفسه من حيث البناء الذاتي القائم على الخبرة والتعلم، وهذا ما تشهد به مراحل تاريخ البشرية في شتى أقطار الأرض. لم يكن هناك تعليم ابتداءً؛ فهو من خلق الإنسان لنفسه، ولم يكن هناك علوم بشرية معروفة في العمارة والزراعة والصناعة والطب والفلك ونحوها، ولكن ملَكة الإبداع في العقل البشري؛ خلقت لنفسها هذه الفضاءات التي أفسحت المجال أمام الإنسان، لكي يبني الإنسان؛ من أجل تنمية المكان وتخليد الزمان.
* عندما دخلنا الكُتَّاب في مسجد القرية ونحن صغار سن؛ أدركنا أن من أتى بالشيخ المقرئ من آبائنا؛ كان حريصًا على توفير ما فاته من أجل أبنائه. لم يكن أحد منهم يعرف أن يقرأ أو يكتب، وكان بعض كبار السن من هؤلاء الآباء؛ يدخل علينا في حلقات الدرس بالمسجد، فيجلس في طرف بعيد، يستمع إلى ما يتلى علينا من آيات القرآن الكريم، فسرعان ما يحفظ الكثير من قصار السور، ليقرأ بها في الصلوات وهو في زهو وفخر، أو يلمح بعض كلمات وحروف وأرقام على السبورة، فيحفظ أشكالها، ومن هذا الحرص وهذه السرعة في الحفظ والفهم؛ تتنامى عند الإنسان معارف جديدة تضاف إلى عنايته بما يملك من خبرات حياتية سابقة ورثها عن أجداده، حتى لو لم تقم على قراءة وكتابة كما أسعدنا حظنا في تلك الفترة. هذا الحرص، وهذا الاهتمام الذي عرفناه في الآباء والأجداد؛ وتجدد فينا وفي أبنائنا؛ هو الذي استوعب فيما بعد مستجدات حضارية لم تكن بلادنا ومجتمعاتنا تعرفها من قبل، فاستوعبت السيارة، والطائرة، ومكائن الماء، والهاتف، والكهرباء.. إلى غير ذلك، لكن هذا كله يبقى من الإضافات الشكلية لحضارات لها أساس أكبر وأعظم في مدننا وبوادينا وقرانا وأريافنا، لم تقم تلك الحضارات بسيارة ولا بمكينة ماء أو هاتف وكهرباء؛ ولكنها قامت على فهم أعمق بترسيخ العلاقة بين هذا الإنسان والمكان الذي عاش عليه، ثم خلّد بذلك زمنه الذي عاش فيه. فمنذ آلاف السنين؛ استطاع الإنسان تطويع محيطه المكاني لصالح زمنه، فحفر الآبار وطواها ببنيان متين، وبنى القرى الحجرية والحصون والسدود والدروب والقلاع، وحتى أدوات الزراعة والطبخ والتطبيب والحرب؛ كيّفها كلها كما يريد من محيطه بعقلية إبداعية فريدة، حتى لو لم تعرف القراءة والكتابة في زمنه، ولكنها عرفت أنها بحاجة لمثل هذا النماء المكاني؛ لكي تعيش وتوفر حياة أفضل لها ولمن يأتي بعدها.
* حين نتكلم على حضارة الإنسان وإضافاته عبر تاريخه الطويل؛ يجب أن لا نغفل أهمية التطورات التي مرت بها البشرية، حين أصبح للعلم والمعرفة المتوارثة والمتبادلة؛ مكانة عليّة في البناء الحضاري، ولهذا.. فإن بناء الإنسان - وخاصة في بلادنا اليوم - مقدم على كل بناء، لأنه الأساس الذي يقوم عليه كل بناء في كل ميدان. إن التعليم؛ هو حقل الإنبات البشري، وهو ساحة بناء الإنسان إذا أردنا لهذا الإنسان أن ينمي المكان في ربوع بلاده، وبذلك يُخلّد الزمان الذي عاشه، ومن ثم يسلّم الراية مرفوعة لمن يأتي من بعده من أبنائه وأنجاله. إذا أصلحنا التعليم؛ فسوف نحقق طموحاتنا في مستقبل بنَّاء للإنسان، وفيه تنمية للمكان، وتخليد للزمان الذي نعيشه، عندها نردد هذين البيتين كما أرادهما المؤسس والموحد (الملك عبد العزيز آل سعود طيب الله ثراه)؛ يوم صحّح البيت الثاني على باب قصر المربع بحيث يصبح فعلنا (فوق) بدلًا من (مثل):
لسنا وإن كرُمتْ أوائلُنا
يوماً على الأنساب نتكلُ
نبني كما كانت أوائلنا
تبني.. ونفعل (فوق) ما فعلوا