أمّ المسلمين اليوم الجمعة في المسجد الحرام فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور بندر بليلة فتحدث فضيلته في خطبته الأولى عن علو الهمة فقال : إنَّ من أجمعِ الفضائلِ وأسناها، وأكرمِ الخلائقِ وأسماها: عُلَوَّ الهمَّة، ومَضاءَ العزيمة، واتِّقادَ الطُّمُوحِ؛ فإنَّها تبعَثُ على الاشتغالِ بمعالي الأمورِ، ونُشدانِ الكمالاتِ، واستصغارِ ما دون النِّهاياتِ، فمنْ عَلَتْ همَّتُه يختارُ المعالي، ومَنْ سفُلَتْ هِمَّتُه لم يَزَلْ يدورُ في فَلَك الدَّنايا! علُوُّ الهِمَّة سائقٌ إلى كلِّ جميلٌ، وداعٍ إلى كلِّ حسنٍ.. وهو صفةٌ لازمةٌ لأهلِ الكمال، وشيمةٌ راسخةٌ عند أربابِ الجِدِّ والتَّشميرِ، فلا تَجِدُ نَابِهًا وهو دنيءُ الهِمَّة، قاصرُ العزيمة، كليلُ السَّعي!
صاحبُ الهِمَّة إذا نوى صدَّق، وإذا عزم حقَّق، وإذا قصد فوَّقَ، وإذا سار سبَقَ! لا يعبَأُ للصِّعاب، ولا تَثْنِيه الآلامُ، ولا تُزَعْزِعُه الأسقام! وليس من خُلُقٍ أحرى أن يكون صاحبُه من أهل السِّيادةِ مِنْ عُلُوِّ الهِمَّة، فعالي الهِمَّة سيِّدُ القومِ، ومُقدَّمُ الأهلِ، وزعيمُ الصَّحبِ، ورئيسُ المَقام! والنَّاسُ في هذا البابِ ضروبٌ شتَّى، وطرائقُ قِدَدٌ.
واختتم فضيلته خطبته الأولى عن علو الهمة بين الصحابة وخصوصاً أبو بكر رضي الله عنه فقال : إنَّ عُلُوَّ الهِمَّة مَدْعاةٌ إلى أنْ يضرِبَ المرءُ في كلِّ بابٍ من أبواب الخير بسَهْمٍ، وألا يُغنِيَه قليلُ الخير عن كثيره، وهو شأنُ أربابِ الكمال، كما جاء أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «مَنْ أصبحَ منكمُ اليومَ صائمًا؟» قال أبو بكرٍ: أنا. قال: «فمن تَبِعَ منكم اليومَ جنازةً؟» قال أبو بكرٍ: أنا. قال: «فمن أطعم منكم اليومَ مِسكينًا؟» قال أبو بكرٍ: أنا. قال: «فمَنْ عاد منكمُ اليومَ مريضًا؟» قال أبو بكرٍ: أنا. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «ما اجتمعنَ في امرئٍ إلا دخل الجنَّة!». أخرجه مسلمٌ.
للهِ هذه الهِمَّة البَكْرِيَّة العالية، ومَنْ لها إن لم يكنْ أبو بكرٍ؟! رضي الله عن الصدِّيق وأرضاه.
وهذا النَّموذَجُ البَكْرِيُّ إنَّما صُنِع على نورٍ من كتاب الله وهَديِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وليس ذلك بِدْعًا؛ فإنَّ قراءة كتاب الله بالتدبُّر والتعقُّل شحذٌ للهِمَمِ، وإذكاءٌ للقرائح، فكلُّ آيةٍ من آياتِه تدعو إلى فضيلة، أو تحذِّرُ من رَذِيلة، فتنبعثُ النَّفسُ وتتشوَّقُ إلى الامتثال، فتحيا فيها الهِمَّةُ العالِيةُ، وتشتعلُ جَذْوتُها!
قال بعض أهل العلم:
«القرآنُ يملأ النُّفوسَ بعِظَم الهمَّة، وهذا العِظَمُ هو الذي قذفَ بأوليائه ذاتَ اليمين، وذاتَ الشِّمال، فأتوا على عُرُوشٍ كانت ظالمةً، ونسفوها من وَجْهِ البَسيطةِ نَسْفًا، ثمَّ رفعوا لِواءَ العَدْلِ، وفجَّروا أنهارَ العُلومِ تفجيرًا. وإذا رأينا مِنْ بعضِ قرَّائه هِمَمًا ضئيلةً، ونفوسًا خاملةً، فلأنَّهم لَمْ يتدبَّرُوا آياتِه، ولم يتفقَّهوا حِكَمَه..
القرآنُ هو الذي ربَّى الأمَّة وأدَّبها، وزكَّى منها النُّفوسَ، وصفَّى القرائحَ، وأذكى الفِطَن، وجلَّى المواهبَ، وأَرْهَفَ العزائمَ، وأعلى الهِمَمَ، وقوَّى الإرادات… فلَمْ يَزَلْ بها هذا القرآنُ حتى أخرج مِنْ رُعاةِ الغنمِ رُعاةَ الأُمَمِ، وأخرج من خُمولِ الأمِّيَّة، أعلامَ العلم والحكمة.
واستهل فضيلته خطبته الثانية بالتحدث عن سرعة انقضاء الدنيا فقال : فإنَّ مِن أبلغِ بواعث عُلُوِّ الهمَّة في نفس المؤمنِ: قِصَرَ الأملِ، وتذكُّرَ سُرعة انقضاء الدُّنيا، فمتى علم العبدُ ذلك وأيقنَهُ؛ توفَّرتْ هِمَّتُه على المعالي واطَّرحَ الصَّغائرَ، واستبقَ الخيرات، وسارع إلى بلوغ المَكْرُماتِ!
قَصِّرِ الآمالَ في الدُّنيا تفُزْ ** فدليلُ العَقْلِ تقصيرُ الأملْ.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليه وسلم بمَنْكِبي فقال: «كُن في الدُّنيا كأنَّك غريبٌ أو عابرُ سبيلٍ» أخرجه البخاري. وزاد: وكان ابنُ عمرَ يقولُ: إذا أمسيتَ، فلا تنتظرِ الصَّباحَ، وإذا أصبحتَ، فلا تنتظرِ المساءَ، وخُذْ من صحَّتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.
واختتم فضيلته خطبته الثانية عن استعداد العبد للقاء الله فقال : وما أحسنَ قولَ الإمامِ ابن القيِّمِ رحمه الله: «صِدقُ التَّأهُّب للقاءِ اللهِ من أنفع ما للعبد وأبلغه في حصول استقامته؛ فإنَّ مَن استعدَّ للقاء الله، انقطع قلبُه عن الدُّنيا ومطالبها، وخمَدتْ من نفسه نيرانُ الشهوات، وأخبت قلبُه لله، وعكفت هِمَّتُه على الله… والمقصودُ: أنَّ صِدقَ التأهُّب للقاء الله هو مِفتاحُ جميعِ الأعمالِ الصالحةِ، والأحوالِ الإيمانيَّةِ… والمِفتاح بيدِ الفتَّاحِ العَلِيمِ، لا إلهَ غيرُه، ولا ربَّ سواه».