الخيل في سباقه إذا قارب خط النهاية، بذل قصارى جهده، وأخرج كل ما بوسعه من قوة وصلابة، ليحقق مراده والظفر بالمراكز المتقدمة، والوصول للنجاح الذي من أجله تعب وكدّ حتى الرمق الأخير، وهكذا حالنا مع شهر الخير والرحمة والغفران، فمضمار السباق أوشك على النهاية، ولَم يتبقى إلا أياما معدودات، ليعرف كل منا مركزه الذي يستحقه، والمنزلة التي كانت من نصيبه بعد الاجتهاد، فالختام هو المفصل الحقيقي لمعرفة من وصل لتحقيق إنجازه ومن لم يصل، ولا يخفى على الجميع أن العبرة بالخواتيم ..
ذهب الثلثان وبقي الثلث والثلث كثير، فماذا عسانا أن نفعل ..؟
هل يمكننا تدارك الأمور وإستثمار ما بقيت من أيام ..؟
نعم كل ذلك باستطاعة الجميع، بل هذه العشر قد أفاض الله فيها النعم، وضاعف بفضله الحسنات، ومحا بعلوه وكرمه السيئات، ففيها تنزل الملائكة بإذن ربها، وفيها ليلة خير من ألف شهر، وقد توصلك الى أعلى العليين، ذهب الماضي بحلوه ومره، فعلينا التفكير بالحاضر وتجديد النية وعقد العزيمة، والوقوف مرة أخرى على عاتقنا لإكمال المسيرة، وتأدية الواجب الرباني، فلنتأمل ما كان عليه سيد البشر في هذه العشر ما يشغل عقله، ويقوي عزيمته، ويشحذ هممه، وما يقدمه من واجبات وحقوق تجاه ربه، فقد قالت عائشة رضي الله عنه:( كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله )، وقالت أيضا:( كان صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها )، وحال سلفنا أيضا فيه الكثير لما نحتاجه نحن هذه الأيام، فقد كان قتادة يختم القرآن في رمضان كل ثلاث ليال مرة، فإذا دخل العشر ختم في كل ليلة مرة، ومن شدة تعظيمهم كانوا يتزينون لها، قال ابن جرير:" كانوا يستحبون أن يغتسلوا كل ليلة من ليالي العشر الأواخر "، وروي عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه إذا كان ليلة أربع وعشرين، اغتسل وتطيب ولبس حلة إزار ورداء، فإذا أصبح طواهما فلم يلبسهما إلى مثلها من قابل، وكان لتميم الداري حلة اشتراها بألف درهم وكان يلبسها في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر ..
غدا توفى النفوس ما كسبت..ويحصد الزارعون ما زرعوا
إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم..وإن أساؤوا فبئس ما صنعوا
هكذا كان حالهم مع ربهم، وهكذا كانوا يفعلون في هذه العشر، وهذا ما علينا فعله والإقتداء بهؤلاء، وهكذا يكون التنافس الحقيقي، فشتان ما بين هؤلاء وبيننا، لو تعلمون أنه ليس هناك فرق بيننا وبينهم، فنحن بشر كما هم بشر، وعندنا القوة كما لهم قوة، ولكن ينقصنا الاجتهاد والعزيمة، وأن نسترد عقولنا اللاهية، ونحيي قلوبنا الغافلة، فبادروا قبل أن يرحل هذا الضيف الكريم، أو قبل أن ترحل نفوسنا الكريمة لربها، ولا يبقى سوى ما قدمنا وكسبنا من هذه الدنيا التي خلقنا الله لنؤدي حقوقه، وكلفنا لعمارة أعظم منزل وأجمل بنيان وهو الجنة التي وعد الله المتقين، فمن أراد أن يقبل منه فعليه الإتقان والتمام ..
ربما هذه الفرصة هي الأخيرة في المسيرة الحياتية، ولا يمكن العودة مرة أخرى للخوض في هذا المضمار، فرحل من رحل ولَم تمكنه العودة، فلعل أنت أيضا قد ترحل، وربما هو آخر رمضان لك، فماذا قدمت ..؟
فلنشمر عن سواعدنا، ونتفرغ للأمر الجلل، ونتهيأ لمناسبة الزمان وفضيلته، ونقبل على الله بكل ما فينا، لنترك بصمة تنفعنا عندما يحيينا الله ويخرجنا من قبورنا ..