أمّ المسلمين اليوم الجمعة في المسجد الحرام فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور سعود الشريم، وتحدث فضيلته في خطبته الأولى عمن انشغل بعبادة الله ومن انشغل بالملهيات، فقال: لقد عاش الناس مع شهرهم هذا أياما فاضلة وليالي مباركات، بين مقلٍّ منها ومكثر، وبين مفرط تائه لاه شغلته الملهيات عن النفحات، وغفل بتتبع الصوارف عن شهر البركات والرحمات، فبينا هو كذلك إذ بشهر المغفرة والعتق من النيران يمر سريعا كمر السحاب، فهنيئا لمن ربح البيع فظفر بالقبول والغفران، وخيبة لمن خسره فرغم أنفه بعد أن باء بالخذلان والحرمان.
ثم تحدث فضيلته عن رحيل شهر رمضان فقال: لقد آذن رمضان برحيله، وما هو إلا كضيف لما نأنس بروحانيته ونستمتع بنسائمه حتى لملم حقائبه وشد رحله ليودعنا بمثل ما جاءنا به، فما أشد الفراق وما أمرّ البين، فليت شعري من الفائز فينا ومن الخاسر، ومن المقبول منا ومن المردود، ألا رحماك يا الله، ألا جبرا منك لكسر قلوبنا على قرب رحيله، وتصرم أيامه ولياليه.
لقد كان الناس يتراؤون هلال دخوله وهاهم قاب قوسين ليتراؤا هلال خروجه.
بالأمس كنا نحييه ويبشر بعضنا بعضا بإطلالته، وها نحن اليوم نودعه ونحن مشفقون من رحيله آسفون لتقلص نسماته، فهكذا هي الدنيا لا تدوم على حال، والنسيم لا يهب عليلا على الدوام، والأيام تغدو فلا ترجع، كل يوم منها يقربنا من الأجل، وينقص من العمر، والسعيد من لم يزده مضيها إلا قربا من خالقه وبعدا عما يبغضه، وقناعة بأنها دار ممر لا دار مقر، وأن مواسم الطاعات فيها كسوق مشرعة الأبواب عامرة بالخيرات والبركات يبتهج فيها الرابح وينكسر فيها الخاسر، والموفق من جعل شهر رمضان بداية السباق في ميدان طاعاته لا نهايته، وإن لكل ميدان بداية ونهاية، وإن الأرباح عند التمام، والعبرة باقتناص الجوائز في النهايات، فلا قيمة لربح يختم بخسران، ولا أثر لخسارة تختتم بالربح، والفائز حقا هو من خاف فأدلج، فإن من أدلج بلغ المنزل، ولن يبلغ المنزل من شغلته الصوارف في ما بقي من العشر،ولا من كثر التفاته،وترادف فضوله في تتبع الرؤى المنامية عن ليلة القدر،فإن من شغل نفسه بالمنامات غفل عن اغتنام اليقظة.
ونصح فضيلته المسلمين بالمبادرة بالتوبة فقال: من بادر قبل الفوات وجعل التوبة مسك ختامه وختام مسكه،فإن الأعمال بالخواتيم،والتوبة تجبُّ ما قبلها،وإنه ما انكسر من تاب،وما خاب من أناب،(إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين)،وإن في ما بقي من شهركم فرصة كبرى للمطيع أن يتزود،وللمقصر أن يستدرك،فإن ما مضى فات،والمؤمل غيب،وليس للفطن إلا الساعة التي هو فيها،فليأخذ من صحته لمرضه،ومن حياته لموته،إذ ما هو في الدنيا إلا كغريب أو عابر سبيل (ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا).
وإننا لنعلم جميعا أن أكثر الناس لا يسلمون من الغفلة فهذه هي طبيعة البشر،لكن اللبيب الموفق هو من يستحضر في نفسه أن غفلته التي يتعثر بها عن اغتنام الطاعات تعد من عوارض الطريق التي لا يخلو منها،ولذا فالمعرة كل المعرة أن يبقى المرء حيث تعثر أو سقط دون أن ينهض ليكمل الطريق، فإن العمر قصير مهما طال،والفرص التي تذهب لا ترجع،والمرء إذا أمسى لا يدري أيصبح أم لا، وإذا أصبح لا يدري أيمسي أم لا، إنها دنيا مهما كبرت فهي صغيرة دون ريب، فإن أول عمر المرء بكاؤه عند ولادته،وآخر عمره بكاء عليه لوفاته، وإن دنيا بين بكاءين لا تستحق الانهماك فيها ولا التعلق بها (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور).
فعلى المرء المسلم أن يتقي الغفلة ما استطاع،فإن من أشد ما يصرفه عن طاعة ربه أن يبتلى بالغفلة عنه؛لأنه بذلك يحرم التوفيق،واغتنام الأوقات الفاضلة من داخل نفسه،قبل أن تشغله وقائع الحياة الحقيقية،وهنا مكمن خسرانه دون ريب.
واختتم فضيلته خطبته الأولى بنصح المسلمين على ترويض النفس فقال: ثم إن نفس الإنسان كفصول السنة منها الصيف والخريف والشتاء والربيع،فإن لم يروض نفسه على تلقي تلك الفصول وإنزالها منازلها لن ترضى، وسيخدع نفسه حينما يوهمها بأنه يستطيع العيش مدى الحياة في فصل واحد على الدوام،فإن لله نفحات ينبغي أن يتعرض لها المرء ولا يفرط فيها قيد أنملة (أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله)ألا إن دواعي القرب من الله في هذا الشهر المبارك أكثر وفرة من غيره وأحظى بركة مما سواه،فمن ضيع ذلكم فهو لما سواه أضيع.
ألا بئس القوم لا يعرفون الله في رمضان،وبئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان،ونعم القوم الذين عرفوا الله في كل حين وآن يعبدون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم،آناء الليل وأطراف النهار،ويجعلون مواسم الخيرات لهم مربحا ومغنما،وأوقات البركات والنفحات لهم إلى رحمة ربهم طريقا وسلما،فإن كل معروف يقتبسه المرء من رمضان ويعزم على المداومة عليه فهو الظفر الحقيقي له،وكان ممن اقتفى هدي نبيه صلى الله عليه وسلم حين قال لعبدالله بن عمرو بن العاص: “يا عبد الله لا تكُنْ مثل فلان كان يقوم من الليل ، فترك قيام الليْل” رواه البخاري ومسلم.
وتحدث فضيلته في خطبته الثانية عن رحمة الله في حزن فراق رمضان بفرحة العيد فقال: واعلموا أن من فضل الله على عباده أن جعل حزن فراق رمضان يعقبه فرح استقبال العيد رحمة منه وفضلا وحكمة؛ لأجل أن تكون النفس مهيأة للتعامل مع صروف الحياة وتقلب الزمن بإيمان صادق، وموقنة بأن كلا من عند الله، وأن الحزن قد يعقبه فرح، وقد يعقب الفرح ترح، ونفس المؤمن الصادق تتعبد خالقها في الأتراح وفي الأفراح،ومن حكمته جل شأنه ألا يدوم في الدنيا حزن، حتى لا يكون الحزين حرضا أو يكون من الهالكين،كذلك لا يدوم فيها فرح حتى لا تغفل نفس الفرح أو تبطر فتقع في الغمط، وتلك الأيام يداولها الله بين الناس.
وإن كان ثمة حزن بانتهاء هذا الشهر المبارك، فهو حزن المفرط في جنب الله، الذي لم يطعم فؤاده من مائدة رمضان، إذ سبقه الفائزون وهو أسير غفلته وتفريطه، وإن كان ثمة فرح فهو فرح الطائع الذي نهل فؤاده من معين هذا الشهر حتى ارتوى من عذب فراته، وكان مع العتقاء من النار.
وحذر فضيلته المسلمين في ختام خطبته من أن ينسيهم فرحة العيد جائحة كورونا وتذكيرهم بإخراج زكاة الفطر، فقال: ثم احذروا رعاكم الله أن يحملكم فرح العيد على إغفال ما تعيشونه من تبعات جائحة الوباء الجاثم، فتقعون في التساهل واللامبالاة، وتكونون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة، وتفسدون ما مضى من جهود مشكورة قد بذلت لتجاوز هذه العقبة الكؤود، فالحذر الحذر من التهاون في اتخاذ الاجراءات الوقائية، ولتحملوا المسؤولية على وجهها الصحيح بجد وإصرار، فإن المستخفين بها يؤخرون يوم العافية ولا يقدمونه، فاتقوا الله عباد الله وسلوه فيما بقي من شهركم بقلوب صادقة أن يكشف هذه الغمة، ويرفع الوباء، فإن في رفعه صلاحا للعباد وسعة للبلاد.
ثم اعلموا رحمكم الله: أن الله قد فرض عليكم زكاة الفطر طهرة لكم وشكرا لخالقكم، فأدوها كما افترضت عليكم عن الذكر والأنثى والصغير والكبير وعمن تقومون بنفقته، وصدقة الفطر تكون مما يطعم الناس، فعن أبي سعيد الخدري أنه قال: “كنا نخرج على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفطر صاعا من طعام، وكان طعامَنا الشعيرُ والزبيب والأقط والتمر” رواه البخاري ومسلم.
ويدخل في ذلكم الأرز وغيره من قوت الآدميين،وكلما كان المطعوم أطيب فهو أفضل، والله جل وعلا يقول: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون).
ووقت إخراجها يوم العيد قبل الصلاة،ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين،تقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام،وغفر لنا ولكم المعاصي والآثام، وأعاننا وإياكم على ابتدار ما بقي من شهرنا، وختم لنا ولكم فيه بالعفو والمغفرة والعتق من النار، إنه سميع مجيب.