أمّ المسلمين اليوم الجمعة في المسجد حرام فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور أسامة خياط فتحدث فضيلته في خطبته الأولى عن استقبال شهر رمضان فقال: حين يُظِلُّ المسلمينَ زمانُ هذا الشَّهْرِ المباركِ رمضانَ، يقِفُ أولو النهى عند جمالِ المناسبة وجلالها، وبين الفَرْحَةِ الغامرة باستقبالها: وقفةً يذكرون فيها أيضًا تلك الفرحَتَين اللَّتَيْنِ أَخبرَ بهما رسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه بقوله: «لِلصَّائمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ». وفي لفظ «فرح بجزاء صومه».
أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وإنَّ هذا التذكُّرَ لَيَحْمِلُهُم على طول التَّفَكُّرِ في بواعثِ هذا الفَرَحِ وأسبابه المفضيةِ إليه، وحقيقة الصَّوْمِ المتعلِّق به.
إذ لاريب أنَّه ليس صومَ من لم يَدَعْ قولَ الزُّور والعَمَلَ به فقد قال عليه الصلاة والسلام: «مَنْ لم يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فَلَيْسَ لِله حَاجَة في أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَه». أخرجه البخاري في صحيحه.
ولا ريب أيضًا أنَّه ليس صومَ من يصوم عادةً؛ لأنّ أهلَ بَلَده صاموا، فكان لِزامًا عليه أن يصومَ مجاراةً لهم.
وليس صَوْمَ المتبرم المتأفف المتضجر المستثقل المسرف على نفسِه.
بل هو صيامُ من استقبل شهره عاقدًا العَزْم على اغتنامِ فرصَتِه في القيام بما أمر به، مما تزكو به نفسه، وتسمو به روحه، ويطمئن به قلبه، ويحفظ به لسانه وبصره وجوارحه.
إنَّه صيام من صام إيمانًا بأنَّه حقٌّ وطاعةٌ وقُرْبى يزدَلِف بها إلى مَوْلاهُ؛ مُحتَسِبًا ثوابه عند الله تعالى، راجيًا جميل الموعود الذي جاء في الحديث الذي أخرَجَه الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمانًا واحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
ثم تحدث فضيلته عن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: وكان مِنْ هَدْيِهِ عليه صلى الله عليه وسلم : الإكثارُ من أنواع العبادات، فكان يُكْثِرُ فيه مِنَ الصَّدَقَةِ، والإحْسانِ، وتلاوةِ القُرْآنِ، والصلاة، والذِّكرِ، والاعتِكَافِ، وكان يخصُّ رمضانَ من العِبادَةِ ما لا يَخُصُّ غيرَه به من الشُّهور، وكان جبريلُ يُدَارِسُه القرآنَ كلَّ ليلةٍ، وكانَ إذا لقِيَه جِبْريلُ أجوَدَ بالخيرِ من الرِّيحِ المرْسَلَةِ، أي: المتَّصِلَةِ الدَّائمة بلا انقطاع.
واختتم فضيلته خطبته الأولى بنصح المسلمين بهدي الحبيب صلى الله عليه وسلم فقال: إنَّ أولئِكَ الَّذينَ يهتدونَ بهذا الهَدْيِ، ويَنْهَجونَ هذا النَّهْجَ، ويستمسكون بهديه المبيَّن على صفته وفق ما بين الله ورسوله همُ الذين تعظم لهم الفَرْحَة، ويكمل لهم السُّرور، حِينَ يَلْقَونَ ربَّهُمْ.
وحُقَّ لمن أحسَنَ الحَرْثَ، وانتقَى البَذْرَ، وأطابَ الغَرْسَ: أنْ يَفْرَحَ بحصادِه يومَ الحصاد، أمَّا مَنْ لَمْ يُحْسِنْ حَرْثَهُ وَلَمْ يُطِب غَرْسَه، فأنَّى لمثلِه أنْ يَفْرحَ؟ وكيف له أن يُسر؟.
فاتقوا الله عباد الله، واعملوا على ما تبلغون به أكملَ سرورٍ وأعظمَ فرحٍ، بحُسْنِ استقبالِ وكرمِ وفادة شهركم بما يليق به من كمال جِدٍّ واجتِهادٍ واستباقٍ للخيرات، ولْنُرِ اللهَ مِن أنفسنا فيه خيرًا، فإنها والله فرصةٌ ما أعظمها، وما أعظم فوزَ من اغتنمها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿شَهرُ رَمَضانَ الَّذي أُنزِلَ فيهِ القُرآنُ هُدًى لِلنّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الهُدى وَالفُرقانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهرَ فَليَصُمهُ وَمَن كانَ مَريضًا أَو عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أَيّامٍ أُخَرَ يُريدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسرَ وَلا يُريدُ بِكُمُ العُسرَ وَلِتُكمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُم وَلَعَلَّكُم تَشكُرونَ﴾.
وتحدث فضيلته في خطبته الثانية عن قراءة القران في شهر رمضان فقال: إن لتلاوة القرآن في هذا الشهر الذي اختص من بين سائر الشهور بنزول القرآن من الفضل العظيم، والجزاء الجزيل، ماتضافرت به الأدلة، من مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ، فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْـحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِها. لَا أَقُولُ: ألم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ». أخرجه الترمذي في جامعه بإسناد صحيح، ومثل قوله عليه الصلاة والسلام: «اقْرَؤُوا القُرْآنَ، فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ». أخرجه مسلم في صحيحه. إلى غير ذلك من الأحاديث.
وإن المسلم كما يحسن به الإكثار من تلاوة كتاب ربه في هذا الشهر، فإنه يحسن به أيضًا أن لا يُخلي هذه التلاوة من تدبر يقفه على بديع المعاني، وجليل المقاصد، مستعينًا على ذلك باستحضار قلبه عند تلاوة كلام ربه، ليكون ذلك عونًا له على فهم ما يقرأ، والتأثر به، والاتعاظ بعظاته، وإنما يتم له ذلك باستشعار عظمة هذا المتلو، وعلو قدره، ورفيع منزلته، وأنه ليس من كلام البشر، بل هو كلام الإله الحق والرب المعبود، الذي لا ند له ولا مثيل، ولا منتهى لعظمته سبحانه، وكمال ذاته وأسمائه وصفاته، وبأن يرتل القرآن فيقرأه بتمهل وأناة، يعينه على تدبر المعاني وتفهمها مع ما فيه من إعطاء الحروف والألفاظ حقها.
واختتم فضيلته خطبته الثانية بنصح المسلمين بالإقبال على القرآن فقال: وإنَّهُ لحَرِيٌّ بمن اغترف من معين هذا الكتاب شهرًا كاملاً، يتلذَّذُ به، ويتلوهُ حقَّ تِلاوتِه، في سُكون طائرٍ، وخَفْضِ جَناحٍ، وتفريغ لُبٍّ، وجمعِ خاطرٍ: أنْ يجعلَ القرآنَ ربيعًا لقلبه، يعمُرُ به فؤادَهُ، ويملأ به جنانَه، ويُحرِّكُ به لسانَهُ، ويتأدَّب بآدابه، ويتخلَّق بأخلاقه.
-وبالجملة- كما قال الآجري رحمه الله: “فإنَّه إذا تلا القرآنَ، استعرض القرآنَ، فكان كالمرآةِ يرى بها ما حسُن من فعله، وما قبح منه، فما حذَّره منه مولاه؛ حذِرَه، وما خوَّفهُ به من عقابه؛ خافَهُ، وما رغَّبَه فيه مولاهُ، رغِبَ فيه ورجاهُ، فمن كان حاله كذلك؛ فقد تلاه حقَّ تلاوته، ورعاه حق رعايته، وكان له القرآنُ شاهدًا وشفيعًا، وأنيسًا وحِرزًا”.
فاتقوا الله عباد الله، وأقبلوا على مأدبة القرآن في شهر القرآن، فعقبى ذلك الرضى والرضوان، ونزول رفيع الجنان.