لم يكن الصراع على المياه جديدا أو غريبا اذ يعود النزاع الى ما قبل مئات السنين عندما كانت القبائل تتنافس للسيطرة على موارد المياه بل وتشن الغزوات المتتالية للهيمنة على منابع الآبار الغنية بالمياه الجوفية. والحقيقة أنه كان لتلك الغزوات ما يبررها في ذلك الزمن. قال تعالى: وجعلنا من الماء كل شيء حي. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "كل شيء خُلق من ماء". فكل كائن حي يريد أن يبقى على قيد الحياة بالحفاظ على ما يتوفر حوله من موارد مائية شحيحة تكاد لا تكفي لسد احتياجاته من المياه العذبة. فالماء نعمة الهية ومنحة ربّانية.
وبالنسبة لما تتداوله وسائل الاعلام عن تصعيد التوتر بسبب اعلان اثيوبيا عزمها الشروع في عملية الملء الثاني لسد النهضة وهو منبع النيل الأزرق الذي يصب في السودان ومصر، أود بداية أن أقدّم للقرّاء الكرام نبذة مختصرة عن تاريخ أزمة المياه التي ظهرت مع بناء السد المائي في بحيرة تانا الاثيوبية قبل نحو عقد من الزمان.
تم بناء سد النهضة على نهر النيل بأثيوبيا بهدف توليد طاقة كهربائية تقدّر بنحو5250 ميجاوات. ولذلك فان الغرض الأساسي من انشاء السد هو توليد الكهرباء لتعويض النقص الحاد في الطاقة في اثيوبيا، ولتصدير الكهرباء الى البلدان المجاورة. ووفقا لخبراء المياه فانه من المتوقع أن يكون السد أكبر محطة للطاقة الكهرومائية في أفريقيا وسابع أكبر محطة في العالم بسعة تبلغ 6.45 جيجاوات.
وكان ملء الخزّان بدأ في يوليو2020 ومن المتوقع أن يستغرق اكتمال الخزّان ما بين 5 الى 15 عاما، وذلك اعتمادا على الظروف الهيدرولوجية خلال فترة الملء واعتمادا على الاتفاقيات بين مصر واثيوبيا والسودان. وبعد يوم واحد من الإعلان عن المشروع رسميا في 31 مارس 2011 مُنحت الشركة الأمريكية وي بيلد عقدا بقيمة 4.8 مليار دولار دون مناقصة تنافسية وفقا لما ذكرته مصادر اعلامية. وفي 2 بريل 2011 وضع ملس زيناوي رئيس الوزراء الأثيوبي آنذاك حجر الأساس للمشروع. وقد أسس مصنعا لتكسير الصخور بجانب قطاع جوي للنقل السريع، وكان من المتوقع أن يُشغّل أول توربين لتوليد الطاقة بعد44 شهرا من البناء.
وفي تلك الفترة اعترضت مصر التي تقع على بعد أكثر من 2500 كم من السد على بنائه حيث ان مصر تعتقد أنه سيقلل من كمية حصتها من ماء النيل لا سيما بعد وصول نسبة أعمال بناء سد النهضة الأثيوبي الى %79 ما أدّى الى تصاعد الأزمة مع مصر والسودان. وكانت مصر تحصل على نحو %90 من احتياجاتها المائية عبر نهر النيل. وتبلغ حصتها السنوية 55.5 مليار متر مكعب، فيما يحصل السودان على 18.5 مليار متر مكعب.
كانت اثيوبيا قد أعلنت أنها ستمضي قدما في عملية الملء الثانية لبحيرة سد النهضة، رغم اعتراضات مصر والسودان. وكانت أديس أبابا أجرت عملية الملء الأول في 15 يوليو تموز 2020م. ويقول خبراء المياه أن عملية الملء الثاني تثير مخاوف كبيرة لاسيما في السودان، وسط تحذيرات من تأثيرها على المنشآت المائية. ولنحو عقد من الزمان خاضت مصر والسودان مفاوضات غير حاسمة. ويتمسك البلدان بتوقيع أديس أبابا على اتفاق قانوني ملزم لها، يتطرّق الى ظروف ملء السد وضوابط تشغيله في سنوات الجفاف. ويعتبر السد الأثيوبي، البالغة تكلفته أكثر من 4 مليارات دولار أكبر مشروع لتوليد الطاقة الكهرومائية في أفريقيا.
أما ما يتعلق بأضرار بناء السد على مصر والسودان فانه من المرجح حسب المصادر أن تنتشر الأضرار الى دول المصب على مدى عدة سنوات. وقد ورد أنه بملء الخزان يمكن أن يُفقد من 11 الى 19مليار متر مكعّب من المياه سنويا، مما سيتسبب في خسارة مليوني مزارع دخلهم خلال الفترة من ملء الخزّان.
من خلال هذه المعطيات التاريخية والدراسات السابقة، وما لم يتدخل المجتمع الدولي، فقد تندلع صراعات مسلّحة تؤدي الى زعزعة الاستقرار في المنطقة كما ذكر ذلك الرئيس المصري قبل أيام قليلة في إشارة الى أن مصر لن تقف مكتوفة الأيدي في الوقت الذي تتناقص فيه حصّتها من مياه النيل الأزرق في دولة المنبع. وكما هو معروف فان كلا النهرين الأزرق والأبيض ينبع أحدهما من بحيرة تانا الاثيوبية في حين ينبع النهر الآخر من بحيرة فيكتوريا في أوغندا.
يمتد النيل لمسافة 720كم ويعرف باسم النيل الأبيض، ويستمر النيل في مساره حاملا هذا الاسم حتى يدخل العاصمة السودانية الخرطوم ليلتقي بالنيل الأزرق القادم من الهضبة الأثيوبية، ويستمر في مساره مرورا بمصر وحتى المصب في البحر الأبيض المتوسط.
عموما أرى أنه من غير المحتمل أن تتنازل أثيوبيا عن عملية الملء الثاني مما يؤثر على حصة مصر وبالتالي تفاقم الأزمة بين البلدين. وفي اعتقادي انه لا سبيل لحصول مصر على كامل حصتها وفقا للاتفاقيات السابقة الا من خلال القيام بمشروع حفر نفق عميق محاذي لمجرى النيل في مصر على أن تستمر عمليات الحفر حتى وصولها الى نقطة تلاقي النيلين الأزرق والأبيض في العاصمة السودانية الخرطوم ثم الاستمرار في حفر النفق حتى وصوله الى ما قبل خط الحدود الفاصل بين السودان وأثيوبيا حيث يمكن هناك بناء محطة ضخ عملاقة لشفط المياه من منبع النيل الأزرق في بحيرة تانا في اثيوبيا وذلك عبر بناء شبكة أنابيب داخل النفق بحيث تنقل المياه من المحطة الأم وتتصل ببحيرة ناصر أو بحيرة السد العالي في جنوب مصر وتحديدا في جنوب مدينة اسوان المصرية.
وفي تقديري أنه حتى في حال تطبيق هذا السيناريو، فقد تواجه جمهورية مصر الشقيقة وكذلك السودان مشاكل فنية وقانونية نتيجة لعمليات الحفر داخل حدود الدولتين بهدف الوصول الى عمق المياه الجوفية على طول مجرى النيل الأبيض والأزرق، ولكن العمل بهذا السيناريو يتطلب الرجوع لمحكمة العدل الدولية من أجل الحصول على موافقة المحكمة الدولية قبل البدء في إطلاق عملية شفط المياه بما يسد حاجة دول المصب ولا يؤثر على احتياطات المياه في دول المنبع.
وكما ذكرت في مقال سابق بعنوان " مياه الأمطار والأمن المائي في بلادنا" فان عملية المحافظة على المياه تتطلب تظافر كل الجهود الإقليمية لوضع استراتيجية شاملة تكون رافدا مهما لمبادرتي المملكة الخضراء والشرق الأوسط الأخضر.