أمّ المصلين في خطبة الجمعة بالمسجد الحرام فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور فيصل بن جميل غزاوي وتحدث فضيلته في خطبته الأولى عن النجاح والإنتاج وأنه هدف يسعى له المرء فقال : إن النجاح والإنجاز والإنتاج هدف يسعى إليه المرء وصفة يتحلى بها المُجِدّ المحافظ على وقته بما يعود عليه بالخير في دينه ودنياه فيستثمر جهده وطاقته وعمره بما يكون له ثمرة يانعة وحصيلة نافعة.
ومما يؤسف له أن يقضي بعض الناس وقته فارغا ويُمضيَ عمره عاطلا فالإهمال عادته والكسل شعاره لا يراعي الإتقان في عمل ولا يسعى في تحقيق هدف، بل هو راض بالدون، وقاصر عن الإنتاج.
ومن الأمور التي يتجلى فيها فقد الإنتاج وضياع الغنيمة، التفريط فيما أرشد إليه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: (اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ) رواه الحاكم والبيهقي.
فقوله صلى الله عليه وسلم: “شبابَك قبل هرمك” توجيه للمرء لغتنام شبابه لأنه مرحلةُ نَضَارةٍ وقوة وحيوية، فيغتنمه في العبادة وأعمال الخير قبل أن يتغير حاله فيكبَر ويضعفَ عن الطاعة ويقلَّ عطاؤه أو يعجز عن العمل.
وقوله صلى الله عليه وسلم: “وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ” فيه تنيبه على أن صحة المرء وما يجده من قوةٍ ونشاط وعافيةٍ في حواسه وقواه فرصة للعمل، لكن هذا الحال لا يدوم، فكم من صحة أعقبها ضعف ووهن ومرض، وكثير من الناس يغتر بصحته وعافيته فتذهب عليه سدى دون اغتنام وأشد من ذلك تضييعها في الآثام ثم الندم بعد فوات الأوان.
وقوله صلى الله عليه وسلم: “وغناك قبل فقرك” فيه حث أن يبذل المرء المعروف وينفق مما أعطاه الله في وجوه الخير وأعمال البر، فما يجده المرء من سعة في المال ووفرة في الرزق لا يدوم ولا يبقى؛ فيجدر بالعاقل ألا يُفتن بأمواله فإنها زخرف زائل ومتاع قليل.
وقوله صلى الله عليه وسلم: “وفراغَك قبل شغلك” فيه توجيه أن يشغل العبد أوقاته بما ينفعه؛ فمن فرط في العمل في ساعة الفراغ لم يدركه عند مجيء الشواغل.
وقوله صلى الله عليه وسلم: “وحياتَك قبل موتك” فيه عبرة وعظة فحياة المرء في هذه الدنيا ليست دائمة بل يعقبها موت، والعاقل حريص على اغتنام حياته في طاعة الله والاستكثار من الزاد.
ومما يؤكد أهمية أن يستثمر المسلم وقته وأن يظلّ عاملا منتجا إلى آخر لحظة من الحياة قوله صلى الله عليه وسلم: (إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليفعل) رواه أحمد.
وأكمل فضيلته خطبته الأولى عن الاجتهاد في التقديم واستفراغ الوسع في العطاء فقال: إذا ذُكر الاجتهاد في التقديم واستفراغ الوسع في البذل والعطاء تمثل ذلك أول ما يتمثل في قدوة الأنام وإمام الأعلام وسيد الصفوة الكرام محمد عليه الصلاة والسلام الذي بلغ الذروة في تحقيق المطالب العلية والمقاصد السنية ففي جانب الطاعة والتقوى كان أعبد الناس وأخشاهم لله حتى إن قدميه الشريفتين تفطرتا من طول القيام، وفي جانب التعليم والدعوة فهو المثل الأعلى في نصرة دين الله ونفع الأمة ونصحها ودلالة الناس على الحق وتعليمهم وهدايتهم وإرادة الخير لهم، كما ضرب عليه الصلاة والسلام أروع الأمثلة في الإحسان إلى الناس وبذل المعروف والسعي في قضاء حوائجهم.
والمؤمن يجتهد في العمل ويتقن أداءه ويساهم في ميادين العطاء، وهذا ما كان عليه الأخيار الأتقياء الذين صاروا أئمة يقتدى بهم في الخير وتركوا آثارا حسنة بعد مماتهم وجعل الله لهم في الناس ذكرًا جميلا وثناء حسنا، باقيا إلى آخر الدهر.
ومن تلكم الأمثلة المشرقة والنماذج المضيئة الصحابي الجليل سعد بن معاذ رضي الله عنه الذي لم يعش بعد إسلامه سوى نحو من ست سنين، إلا أنه قدم وأنجز ما قد يعجز عن مثله من عاش في الإسلام عمرا طويلا، حتى نال ذلك الفضل الكبير والشرف العظيم، قال الذهبي: “وقد تواتر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العرش اهتزَّ لموت سعد فرحاً به)”.
ومن أولئك الأعلام العظام عطاء بن أبي رباح رحمه الله كان سيد التابعين وعالم الدنيا في زمانه، قال بعض أهل العلم: كان عطاءٌ أسود أعور أفطس أشل أعرج، ثم عَمِيَ بعد ذلك. ومما ذكر في فضائله أنه حج سبعين حجة وبعدما كبِرَ وضعُف كان يقوم إلى الصلاة فيقرأ مائتي آيةٍ من البقرة وهو قائمٌ، ما يزول منه شيءٌ ولا يتحرك.
وهذا يعلمنا أن المسلم مهما واجه من الابتلاءات والمصائب فإنه يبقى ثابتا متجلدا قويا لا ييأس ولا يضعف ولا ينطوي على نفسه ولا يمتنع عن النفع والعطاء.
واختتم فضيلته خطبته الأولى عن ذكر مشاهير وأعلام الإسلام فقال: ومن أعلام الإسلام ومشاهير الأئمة عبدالله بن المبارك رحمه الله، جاء في مناقبه وفضله أنه جمع العلم والفقه والأدب والنحو واللغة والشعر والفصاحة والزهد والورع والحياء وحسن الخلق وحسن الصحبة والشجاعة والقوة والسخاء وقيام الليل والخشية والإنصاف وترْكَ الكلام فيما لا يعنيه. قال بعض العلماء: “لا نعلم في عصر ابن المبارك أجلَّ من ابن المبارك ولا أعلى منه ولا أجمعَ لكل خصلة محمودة منه”، فهذا يدل على إمامته وجلالته وعلو مكانته وعظيم إنتاجه. وما أجدر أن ينظر كل امرئ منا في نفسه ما الذي اكتسبه من مثل هذه الخصال الفاضلة والصفات الحميدة.
ومن أمثلة النساء الرائدات المنتجات اللاتي شاركن في مضمار المسابقة لمراتب النجاح والسؤدد زوجة هارون الرشيد زبيدة بنت جعفر المنصور رحمها الله. كان لها مناقب جمة وفضائل كثيرة فقد عرفت بأنها ذات عقل ودين ورأي وفصاحة وبلاغة، واشتهر عنها محبتُها للخير والإفضالُ على أهل العلم، والعطف على الفقراء والمساكين، وكانت سخية، تبذل النّفيس في سبيل الله، ولا أدلّ على هذا من إنشائها عينَ الماء العذبة الشهيرة عينَ زبيدة.
ومن لطيف ما يُروى من الأخبار أن عجوزا بكت على ميت فقيل لها: بماذا استحق هذا منك؟ قالت: “جاورنا وما فينا إلا مَن تحل له الصدقة، ومات وما فينا إلا مَن تجب عليه الزكاة”. فهذا الرجل المحسن عمل على تأهيل هؤلاء الذين جاورهم فأثمرت رعايته لهم بعد توفيق الله .
وبين فضيلته في خطبته الثانية أن المؤمن دائماً ذا عمل ونشاط فقال: ومما يستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم الوارد في الصحيح: (احْرِصْ علَى ما يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ باللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ) أن يكون المؤمن دائما ذا عمل ونشاط وهمة وإقبال ومثابرة، يبذل ويُجد ويقدم ويثمر وينجز وينتج ويصلح وينفع ويسعى إلى المجد ويطلب معالي الأمور ويدرك ركاب السابقين إلى ربهم، وفي المقابل يقبح بالمرء أن يكون ضعيفا سلبيا فاشلا خاملا عاطلا مهمِلا مضيعا واجبه متراخيا متباطئًا في إنجاز عمله لا يرجى من ورائه نفع ولا ينتظر منه بذل ولا عطاء.
ولتتذكر عبد الله أن فيك قدرات يمكن أن توجه إلى الخير وتستثمر في نفع الغير فلا تستهن بذلك ولا تحتقر نفسك ولا يثبطنك الشيطان وكن طموحا، واسع في تغيير حالك وإصلاح ذاتك مستعينا بربك في ذلك واعلم أن الاستسلام للمألوف من العادات السيئة يمنعك من تجاوز الخلل وتحسين العمل وأن من لا يتقدم ولا يخطو إلى الأمام خطوات لا يبقى في موقعه بل يتراجع ويخسر ويسوء حاله وتشين فِعاله. كما أن مجرد الأفكار والأماني لا تجدي ولا تغني شيئا ما لم تترجم إلى عمل وتتحول إلى واقع ملموس، فكم من الرغبات الجميلة والطموحات النبيلة ذهبت سدى وضاعت عبثا ولم يتحقق منها شيء لأنها لم تجد من قبل صاحبها جدا في طلبها ولا صدقا في نيلها بل كانت مجرد أمانٍ في نفسه، فلم تنفعه.
واختتم فضيلته خطبته الثانية بحديثه عن الوقت وقيمة استغلاله في مايفيد فقال : إن أوقات العمر ثمينة، وكل يوم يعيشه المرء مكسبٌ وغنيمة، وإن مَن لم يحفظ أوقاته ويغتنم لياليه وأيامه خسر خسرانًا مبينا؛ فاشتر نفسك اليوم عبد الله وجاهد نفسك في ذات الله وبادر بالتوبة النصوح والتزود من التقوى والمداومة على العمل الصالح قبل حلول الأجل وقدم لنفسك، واغتنم فرصة حياتك واحرص على ما يتعدى نفعه للآخرين ويبقى بعد موتك فإن السوق الآن قائمة والثمن موجود والبضائع معروضة وسيأتي على تلك السوق والبضائع يوم لا تصل فيها إلى قليل ولا كثير ذلك يوم التغابن يوم يعض الظالم على يديه.