* الواقع أن عشرات آلاف المشاهدات، وآلاف المشاركات والمداخلات التي حظي بها المقال على حسابي في تويتر؛ وما رشح عنها من أقوال قليلة لا تمثل إلا أصحابها؛ تدفعني للكلام من جديد، ذلك أن تفرُّد أبناء حضرموت بالهجرة والغربة، واتخاذ مقار ومواطن بديلة لهم في شتى أقطار العالم؛ يشكل ظاهرة غير مسبوقة، فهي بدأت منذ آلاف السنين وما زالت حتى يوم الناس هذا، وأن الصورة التي يحملها كثير من الناس عن نجاح المغتربين الحضارمة في عالم التجارة والمال والأعمال؛ ليست هي كل تفاصيل الصورة، ذلك أن لا أحد منهم وُلد وفي فيه ملعقة من ذهب، ولم يحمل معه من غربته من زاد؛ إلا العزم والإصرار على العمل والكفاح وتحقيق النجاح في أي ميدان يكون فيه، فإذا حالف الحظ أكثرهم في مهاجرهم وغربتهم نتيجة لاستقامتهم وأمانتهم وجلدهم وصبرهم المشهود لهم؛ فيبقى هناك البعض منهم - وهم قليل على كل حال - من ظل يعاني الأمرَّين من مرارة الاغتراب، وشظف العيش، والتنقل من بلد إلى آخر، طلبًا للأمن والاستقرار والعيش الكريم، في ظل وطن بديل، بعد أن نفد بجلده ذات يوم؛ من غول الثلاثي الذي لا يرحم: (الخوف والجوع والمرض)، وهذه هي حال الكثير من المهاجِرين والمهجَّرين والمغتربين، الذين يتركون مواطنهم الأصلية في أفريقيا وآسيا على وجه الخصوص؛ إلى بلدان مستقرة آمنة تتوفر فيها فرص العمل والحياة.
* إن الكثير من رجال المال والأعمال الناجحين البارزين من أبناء حضرموت، لم يصلوا إلى هذه المنزلة إلا بعد مشقة وعناء، تبدأ عادة مع أحدهم وهو صغير سن، ومع ذلك تظل مرارة الغربة عن وطن كان وأهل وآباء وأجداد كانوا؛ ملازمة لهم في مهاجرهم ومواطنهم البديلة. أتذكر بهذه المناسبة؛ لقائي المنشور في (المرحومة الندوة)، مع الشيخ (سالم بن محفوظ) رحمه الله، مؤسس البنك الأهلي. كان ذلك صائفة العام 1398هـ في مزرعته بالشفا، وهو في قمة نجاحه ونجوميته المالية والعملية، فمما قال لي ويردده في مجالسه: أنه كان صبيًا صغيرًا (صبي مجاود)، يخدم في دار أسرة مكية ثرية، ثم انتقل للعمل موظفًا صغيرًا في مصرف صغير لهذه العائلة، ثم استقل وفتح مصرفًا خاصًا به، فكان هذا المصرف لبنة وبداية البنك الأهلي التجاري..! هذا نموذج واحد مبسط للغاية، يجسد الصبر والمثابرة والعزم على الوصول للنجاح.
إعلان
* كان أكثر ما يؤرق المهاجرين وما زال؛ وفي مقدمتهم أبناء حضرموت؛ الانتماء الوطني. الشعور بالانتماء للمكان. هناك متلازمة ثلاثية حياتية منذ أن خلق الله الكون وهي: (الإنسان- المكان- الزمان). فبناء الإنسان؛ ينمي المكان، ويخلِّد الزمان. وإذا لم يشعر الإنسان بالأمان وبالانتماء للمكان، فإنه يستحيل بناؤه نفسيًا وعقليًا وعلميًا وجسميًا، وبالتالي يقل عطاؤه للمكان الذي هو فيه، وللزمان الذي يعيشه. كنت قبل أعوام خمسة في إندونيسيا، وزرت في مدينة (بوقور) في إقليم (بنشك)؛ الشيخ (عبد الله النهدي)، الذي كان يدير محلات للأدوات الكهربائية في برحة ابن عباس بالطائف. وجدته يجلس في دكة لداره المتواضعة بثوبه العربي وشماغه وعقاله، وأمامه دلة القهوة والتمر وإبريق الشاي. تحدثنا كثيرًا، فروى لي كيف أنه قضى أكثر من ثلاثة عقود في غربة دون انتماء لوطن بديل، فقرر الهجرة الثانية إلى إندونيسيا، وهنا أصبح مواطنًا هو وأفراد أسرته، له حقوق المواطنة، وعليه واجباتها. وهذا نموذج لوجه آخر قد لا يعرفه الكثير من الناس.
* ومن بين آلاف المداخلات والتعليقات على المقال؛ كتب الأخ محمد العمودي من مدينة جُدة يقول: (مقالك أكثر من رائع، ولكن واقع الحال في الغربة صعب للغاية، بدأنا هجرة جديدة لأرض الله. تصور أن جدي دفن هنا قبل مئة سنة، ووالدي دخل المملكة العربية السعودية عام 1364هـ، وأنا وُلدت بحارة المظلوم، أبلغ من العمر الآن خمسين عامًا، خريج جامعة المؤسس، والآن.. أبنائي متوزعون في 3 دول، ورفضت الخروج؛ لأني أشعر أني ابن هذا الوطن، لا أستطيع العيش إلا هنا. أريد أن أموت مكان ما تُوفَّى والدي وجدي).
* أخيرًا.. لا أجد أي رابط منطقي بين ثراء الكثير من الناس- ومنهم التجار الحضارمة- وبين البخل الذي يرمي به الناس بعض هؤلاء. ربما من باب التنكيت. ابن القيم رحمه الله؛ فرّق بين الشح الذي هو شدة الحرص؛ وبين البخل فقال: (الشحُّ هو شدة الحرص على الشيء، والإحفاء في طلبه، والاستقصاء في تحصيله، وجشع النفس عليه، والبخل هو منع إنفاقه بعد حصوله، وحبه، وإمساكه، فهو شحيح قبل حصوله، بخيل بعد حصوله، فالبخل ثمرة الشحِّ، والشحُّ يدعو إلى البخل، والشحُّ كامن في النفس، فمن بخل فقد أطاع شحَّه)، وكل من عرفنا من الموسرين حضارمة وغيرهم؛ فيه حرص نعم، لكن فيه كرم ودعم للخير في أوجهه المشروعة. لو عدنا إلى الماضي البعيد؛ لوجدنا أن المقنّع الكندي الحضرمي؛ يدحض عن قومه تهمة البخل فيقول:
إني أحرِّض أهل البخل كلّهمُ
لو كان ينفع أهل البخل تحريضي
ما قلّ ماليَ إلا زادني كرماً
حتى يكون برزق الله تعويضي