أعتقد أنه لا سعادة حقيقية إلا بالكسل .
قد يبدو هذا القول تهكماً ، ولكن ما أكثر ما فيه من الحقيقة. فإن الإنسان الذي يقضي حياته في عمل متواصل ، لا يتوقف عن ذلك إلا ريثما يزدرد لقيمات تقيم أوده ، أو لأن سلطان النعاس غلبه على أمره ، لا يمكن أن يكون إنساناً سعيداً في حقيقة الأمر وإذا كان لا يشعر بالتعاسة ، فلأنه لم يتسع له الوقت ليسأل نفسه ، أو ليعرف طعم الحياة.
ولتعلم أنه إذا لم يتسع أمامك الوقت ساعات كل يوم تشعر فيها أنك غير مطالب بشيء على الإطلاق ، فتستطيع أن تسترخي ، أو تتمشى ، أو تقرأ ، أو تذهب إلى زيارة قريب أو صديق . إذا لم يتسع الوقت ساعات كل يوم لتفعل هذا كما تشاء ، فأنت إنسان غير سعيد.
إن الفترة الأولى من حياة الإنسان ومنذ فجر شبابه ، بمعنى أصح ، لا تسمح له بذلك كما يشاء ويريد . فإن مطالب العيش ، والطموح إلى بناء المستقبل ، لا تترك للإنسان وقتاً للكسل. وإذا تركت له بعض الوقت ، فإن دماء الشباب الفوارة تجعله يشغله بما لا يقل إجهاداً عن العمل . فإذا انسلخ عهد الشباب ، أصبحنا أرباب أسر وآباء أطفال ، وكان علينا أن نفكر في تأمين شيخوختنا ، وتوفير الحياة الكريمة لأولادنا ، ولذا ننهمك في العمل ولا نسمح لأنفسنا بذلك الكسل اللذيذ ، ونضطر – آسفين – إلى تأجيل هذه المتعة الكبرى -التي هي شرط السعادة الضروري – حتى الشيخوخة.
فالشيخوخة ، أو بمعنى أصح سن التقاعد ، وهو السن الذهبي الذي يحلم به كل إنسان ، كي ينعم بالكسل الجميل ، ويستطيع التصرّف في حياته كما يشتهي. فأنت لا تملك وقتك إلا إذا كان فارغاً من المسؤليات والمطالب. أما وأنت مسؤول فوقتك مشغول ، وأنت ملك لوقتك وليس وقتك ملكاً لك.
وليس هناك في الواقع حد معين تستطيع أن تقول عنده للتاجر أو المحامي أو الطبيب أو المزارع : الآن يا صاحبي يجب أن تتقاعد ، فقد بلغت الستين ، وهي سن التقاعد.
وذلك لسبب يسير جداً ، وهو أن الأشخاص يختلفون كثيراً في تكوين أجسامهم ، وظروفهم المالية والعائلية ، بحيث يجب أن يترك للشخص نفسه تحديد سن تقاعده.
إذن : متى يجب أن نبدأ في التفكير في التقاعد !؟
الجواب الصحيح عندي لا شك سيدهشك ، فإنني أرى أن الإنسان العاقل يجب أن يبدأ التفكير في التقاعد وهو دون سن العشرين .
يقول المفكر دايل كارنيجي مؤكدا على ذلك : فمنذ تلك السن يجب أن تفكر وتستعد ، حتى تكون متأهباً للتقاعد في أقرب وقت ممكن ، فلا يكون تقاعدك لأنك لم تعد تستطيع العمل ، بل لأنك قادر على وقف العمل كي تتفرغ لحياتك الخاصة. وليس لأنك لم تعد تصلح إلا لانتظار الموت . بل لأنك تريد أن تبدأ الحياة الحقيقية ، وما زلت صالحاً لها.
فيا حبذا لو كانت مادة التقاعد من المواد الدراسية في مدراس التعليم العام والجامعي ، حتى لا نفسد حياتنا ، ونخسر أجمل ما فيها ، وهو وقت الحلم الذهبي أي الكسل والاستمتاع بالحرية والوقت .
فإذا كنت تستطيع التقاعد في سن الخامسة والأربعين ، فلا تجعلها خمسين وإياك أن تضع خطتك منذ البداية على أنك ستتقاعد في سن الخامسة والستين ، لأنك غالباً سوف لا تتمتع بالعهد الذهبي إلا بضع سنوات ، كما أنه يحتمل كثيراً أن تكون قد صرت مهدماً فتقضي تلك السنوات مقعداً منغصاً لا تستطيع التلذذ بحريتك ووقتك ، كما أنه يمكن والله أعلم ألا تبلغ سن الخامسة والستين .
وثمة شيء آخر : عليك منذ حداثتك أن " تضع عينيك " على هواية تستمتع بها بعد التقاعد . فلا يخطرن ببالك أنك ستسعد في تقاعدك بقضاء السنوات في لف أحد إبهاميك حول الآخر ، أو في حبات المسبحة ، وأنت تحملق في السماء أو في الماء.
وهناك خطأ شائع جداً ، وهو أن التقاعد يقصر العمر ، ويذكرون مثلاً لذلك حالات رجال كانوا بأحسن صحة وهم يعملون ، فلما تقاعدوا لم يعمروا طويلاً وماتوا.
وتعليل ذلك عندي يسير : فإن طول مدة العمل تضعف المقاومة ، فإذا توقف الإنسان مرة واحدة عن العمل ولم يكن عنده ما يشغله إطلاقاً , كان ذلك أشبه بنزول الشخص من القطار وهو يجري بأقصى سرعته. ذلك أن أجهزته كلها معقودة على روتين مجهود معين بسرعة معينة ، فإيقافه فجأة يحدث هزة شديدة ، هي التي تسبب ذلك الانطفاء السريع .
أ . د / زيد بن محمد الرماني
ــــ المستشار الاقتصادي
وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية