هذا مقالي السادس عشر الذي يدور حول الزائر الثقيل جدًا فيروس (كورونا covid19). كل مقال يستوحي مفرداته من طبيّات وأدبيات وتاريخ هذا الوباء وما سبقه مما شابهه في حياة البشر. يأبى كورونا الانفكاك منا والمغادرة؛ ويأبى قلمي إلا أن يأخذ دوره مع بقية الأقلام في نشر الوعي وتعميم الثقافة بوباء قاتل يحصد أرواح الناس في كل مكان. إن عدد ضحايا وباء كورونا ناهز اليوم المليوني إنسان. نسأل الله أن يعجل بساعة فراقه عنا.
نتكلم كثيرًا عن أضرار وباء كورونا من إمراض الناس وقتلهم؛ إلى نشر الخوف والفزع والجوع، إلى أمراض نفسية كثيرة، وضرب الاقتصادات على مستويات عليا ودنيا. اقتصادات دول اهتزت، ودخول مؤسسات وأفراد قلّت أو انعدمت، فحل الخراب بالكل. لا بد لهذا الليل أن ينجلي بعون الله. مع ذلك رأيت وعايشت بنفسي منافع كثيرة لكورونا إلى جانب أضراره. إنها منح في محن يغفل عنها كثير من الناس. من هذه المنافع؛ ما جد على حياة الناس اليومية من سلوكيات وعادات تتعلق بالنظافة العامة، وتقليل أو تقليص الحفلات، وبالتالي توفير مبالغ طائلة، ورفع الكلفة عن الأقارب، إلى جانب تنظيم طرأ على مواعيد النوم والاستيقاظ عند البعض كان مفيدًا.
الأهم من هذا كله -وقد مارسته بكل إصرار على تحدي حبسة كورونا- هو استئناس المكتبة المنزلية من جديد، وتخصيص ساعات طويلة مع آلاف الأعلام من المؤلفين والأدباء والشعراء والفلاسفة والمؤرخين من ساكني الرفوف؛ الذين لا يتذمرون، ولا يتشكون، وينفعون ولا يضرون، فهم أصدقاء خُلّص لمن يتعهدهم بين وقت وآخر، فيقرأ لهم، ويقف عند آرائهم وتجاربهم في الحياة. تمكنت خلال سبعة أشهر؛ من المقاربة بيني وبين مئات المؤلفات التي سبق أن قرأتها مرة أو مرات، وتوقفت كثيرًا عند ملاحظات كتبتها، وإشارات وضعتها، وعلاقة وطيدة نشأت بيني وبين هذا الكتاب وذاك في أعوام خلت. اكتشفت مع هذه المراجعات والمسامرات؛ أني لست أنا. لست أنا في مواقف كثيرة مما مرّ بي مع الكتب فأيدته أو رفضته. سبحان الله كيف تتغير الأحوال.
من المنافع المهمة التي جنيتها من وراء كورونا؛ أني جدّدت عادتي في الخروج إلى الفضاء العام بين الأرض والسماء، لكي أستمتع بالشمس والقمر والنجوم. أستنير بالقمر بدل الكهرباء، وأناجي النجوم في السماء، وأستدفئ بأشعة الشمس صباحًا ومساءً، وأستظل بظل الشجر، وأستنشق هواءً نقيًّا نظيفًا بعيدًا عن مكيفات الهواء. كل هذه النعم؛ اكتشفتها وأنا تحت أحكام كورونا، من تقليص الحركة، وتحقيق التباعد الجسدي، وملازمة الكمّامة. إن قمة المنافع التي تحققت لي في هذه الحالة مع كورونا؛ هي ممارستي للمشي في الهواء الطلق. أخذت أمشي بشكل شبه يومي وأنا أردد حكمة تقول: (من ترك المشي نسيه المشي وتركته العافية). و(اهتم بحركتك تدم عافيتك). ومما يؤثر عن كثير من الفلاسفة والحكماء قولهم: (المشي هو أفضل تدريب ممكن. عوّد نفسك على السير لمسافات بعيدة). وقولهم: (في اللحظة التي تبدأ قدماي بالمشي؛ تبدأ الأفكار في رأسي بالتحليق. (وقولهم: (كل الأفكار العظيمة تولد أثناء المشي). وخلاصة حكمة المشي قولهم: (اهتم بحركتك تدم عافيتك، وتستمر سعادتك. إن لم تكن تستطع الطيران فاجرِ، وإن لم تكن تستطع الجري فامش، وإن لم تكن تستطع المشي فازحف.. أيًا ما كنت فاعلاً؛ عليك الاستمرار بالتحرك نحو الأمام).
لماذا نمشي..؟ سؤال مهم له عند الأطباء والفلاسفة والحكماء ألف سبب وسبب. إن أهم الأسباب التي تعنينا؛ هي ما قال به الأطباء في هذا الشأن. قالوا: نمشي لكي نخفف من التوتر والضغوط النفسية، ونقلل من أوزاننا. ونمشي لكي نتعالج من مرض السكري والكوليسترول، ولكي ننشط وظائف الكلى والكبد والعين. نمشي كي ننشط عمل القلب، ونخفف صلابة الشرايين. نمشي كي نخفف من أعراض القولون واضطرابات الجهاز الهضمي، وننشط جهازنا المناعي، ونقوي عضلاتنا وعظامنا، ونحافظ على صحتنا.
لقد عظّم الأطباء أمر المشي حتى بدا أن ليس من مرض عضوي أو نفسي إلا وللمشي دور في علاجه. هذا دواء مجاني يغفل عنه أو يتهاون به كثير منا وهو لا يكلف شيئًا. يقول أحد الأطباء: (لو أُنشئ مضمار للمشي حول كل مستشفى ومشى الناس حوله؛ لما دخل المستشفى نصف مَن هم فيه الآن، ولخرج من المستشفى نصف من فيه..! لقد خُلقنا مشَّائين، لكنهم أقعدونا على الأرائك، فلما اجتاحتنا الأمراض؛ لم يعيدونا للمشي، بل حملونا لنرقد على الأسرَّة البيضاء ننتظر النهاية)..! ومع حكم الحكماء وأقوال الأطباء؛ للشعر قولة هو الآخر في هذه المسألة. يقول الشاعر (عطا رموني):
المَشْيِ عافِيَةَ الأبْدان يَحْفَظُها
ذاكَ النَّشاطُ فَلا تُحْصى فَوائِدُهُ
شَحْنٌ لِطاقَةِ جِسْمٍ قَدْ تَكُنْ هُدِرَتْ
فَاحرِصْ عَلَيها نَشاطٌ لا تُفارِقَهُ
فِي أيِّ عُمْرٍ تَراها سَهْلَةً أبَداً
الجِسمُ يَنْشَطُ تُعْطِيهِ مَناعَتُهُ
دونَ العَناءِ وَلا تَحْتاج تَكْلِفَةً
يُعْطي شُعُوراً يَمُدُّ الجِسم راحَتهُ
خَيْرُ الرِّياضَةِ لا نادٍ وَأجْهِزَةٍ
تُجْرِيهِ حَتَّى وَإنْ لا مالَ تَمْلِكُهُ
كَمْ مِنْ فَوائِد تَجْنِيها وَتَكْسَبُها
يَصْفُو لَكَ الفِكْرُ يُعْفِيهِ تَوَتُّرَهُ
والقَلْبْ يَنْشَطُ والأمراضُ تَعْدِمُها
تِلكَ الوِقايَة لا تَعدَمْ فَوائِدَهْ
أخيرًا.. إن من جرّب التغيير زمن كورونا في الأشهر الفارطة؛ لا بد وأنه اكتشف نفسه من جديد، وأنه توصل إلى أن قمة وجوهر التحدي الممكن لوباء كورونا وما في حكمه من أوبئة وأمراض؛ إنما يكمن في المشي. المشي في حد ذاته مظهر من مظاهر الحياة، هيا نمشي ونمشي. ثم أقول: (لقد حُيينا لنمشي، فدعونا نمشي لنحيا).