* منذ عدة أشهر فارطة؛ والبشرية جمعاء؛ تخوض حربًا لا هوادة فيها مع جائحة عظيمة أضرت بالعباد والبلاد. لم تبق دولة لم تتضرر اقتصاديًا وصحيًا واجتماعيًا، ولم يبق مجتمع لم يفقد من بينه أهل وأحبة وأصدقاء، راحت حياتهم نتيجة الإصابة بفايروس (covid - 19 كورونا) اللعين. الواقع أن وباء كورونا ليس جديدًا على البشرية وإن جاء باسم جديد، فقد عانى الناس منذ بدء حياتهم من أمراض وأوبئة وجوائح عديدة، حصدت مئات الملايين، وها هو وباء كورونا يطرق خانة الملايين من الأموات، ويدخل خانة عشرات الملايين من المصابين. نسأل الله السلامة.
* يُعد وباء (الطاعون) أشهر وأخطر الأوبئة التي عرفها الناس في حياتهم. والطاعون وباء خبيث معدٍ، تتسبب فيه القوارض والثدييات من الحيوانات وخاصة الفئران. وهو يماثل ما يشهده العالم اليوم من فايروسات وبائية، مثل إنفلونزا الطيور، ثم الخنازير وسارس، وأخيرًا وباء (كورونا)، الذي ظهر في الصين مؤخرًا وانتشر بعدها في كل القارات. ومن الطواعين ما عرف بطاعون (عمواس)، الذي هو أشهر وباء ضرب الدولة الإسلامية في عصرها الأول في الشام، وحصد أرواح العديد من الصحابة والتابعين، ولكن الصحابي الجليل (عمرو بن العاص) رضي الله عنه؛ تمكن منه، فغلبه وقهره، فكيف تم له ذلك..؟
* من خبر طاعون عمواس؛ ما ورد عند البخاري في صحيحه قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ سائرًا مع أصحابه في الطريق إلى الشام، حين التقى بأبي عبيدة الجراح، ليخبره أن الوباء قد حل بالشام. عن ابن عباس رضي الله عنه؛ أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسرغ- سرغايا.. بلدة بسورية- لقيه أمراء الأجناد: أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام، قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين فدعوتهم، فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا عليه، فقال بعضهم: قد خرجت لأمر، ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس، وأصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولا نرى أن تُقدمْهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي الأنصار، فدعوتهم، فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي من كان ههنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم له، فلم يختلف عليه منهم رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس، ولا تقدمهم على هذا الوباء. فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه، فقال أبو عبيدة: فرارًا من قدر الله..؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة..؟! نعم، نفرّ من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كانت لك إبل، فهبطت بها واديًا له عدوتان، إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله، قال: فجاء عبدالرحمن بن عوف، وكان غائبًا في بعض حاجاته، فقال: إن عندي من هذا علمًا، سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: (إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارًا منه)، فحمد الله عمر ثم انصرف. وقد استشهد في طاعون عمواس كثير من الصحابة أبرزهم: أبو عبيدة بن الجراح الذي كان واليًا على الشام حينها، وكان أبو عبيدة قد خطب في الناس عندما اشتد عليهم الوباء قائلًا: يا أيها الناس إن هذا الوجع رحمة ربكم ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وإن أبا عبيدة يسأل الله تعالى أن يقسم له من هذا الطاعون حظه. وخلفه في ولاية الشام معاذ بن جبل، الذي أودى الطاعون بحياته أيضًا، وقال حين ظهرت عليه أعراضه في راحة يده، فنظر إليها وقبل ظاهر كفه وقال: ما أحب أن لي بما فيك شيئًا من الدنيا.
* كيف تغلب الصحابي (عمرو بن العاص) رضي الله عنه على وباء (طاعون عمواس)..؟ جاء أنه رضي الله عنه حين خلف معاذ بن جبل في ولاية الشام؛ خطب في الناس طالبًا منهم أن يشعلوا النار، ويختبئوا من الوباء في الجبال بأراض مرتفعة بحيث يبعدهم عن الهواء الملوث في المناطق المنخفضة، وهكذا رُفع الطاعون عن أهل الشام، وكان ذلك اجتهادًا موفقًا من ابن العاص، مخالفًا فيه هدي سابقيه. وهكذا كسب المعركة مع (طاعون عمواس). أما (طاعون كورونا)؛ فما زال الكل يبحث عن وسيلة لكسب المعركة، التي يبدو أنها مستمرة وطويلة.
* من أشهر وأحدث شهداء وضحايا وباء كورونا؛ الشاعر السوري (خالد جميل الصدقة 1956 - 2020م)، تاركًا لنا (معلقته (الكورونية) بعد إصابته بفيروس كورونا. وهو يحاكي بها معلقة عمرو بن كلثوم: (ألا هبي بصحنك فاصبحينا) قال رحمه الله:
ألا هُبِّي بكمّامٍ يقينا
رذاذَ العاطسينَ وعَقِّمينا
فنحن اليومَ في قفصٍ كبيرٍ
وكورونا يبثُّ الرعبَ فينا
إذا ما قد عطسنا دون قصدٍ
تلاحقُنا العيونُ وتزدرينا
وإنْ سعلَ الزميلُ ولو مُزاحاً
تفرَّقنا شمالاً أو يميناً
وباءٌ حاصرَ الدنيا جميعاً
وفيروسٌ أذلَّ العالمينا
تغلغلَ في دماءِ الناسِ سراً
فباتوا يائسينَ وعاجزينا
يقاتلُهمْ بلا سيفٍ ورمحٍ
ويتركُهم ضحايا مَيِّتينا
أيا كوفيدُ لا تعجلْ علينا
وأمهلْنا نخبرْكَ اليقينا
بأنّا الخائفونَ إذا مرضْنا
وأنا الجازعونَ إذا ابتُلينا
وأنا المبلسونَ إذا افتقرنا
وأنا الجاحدونَ إذا غَنِينا
وأنا الباخلونَ إذا ملكْنا
وأنا الغادرونَ بمنْ يلينا
وأنا قد ظلمْنا وافترينا
وشوَّهنا وجوهَ الصالحينا
وأنا قد هجرْنا كلَّ حقٍّ
وصافحْنا أكفَّ المجرمينا
وأنا ما شكرنا اللهَ حقاً
على نعمٍ أتتنا مُصبحينا
وهذي صفعةٌ أولى لنصحوا
ونخرجَ من حياةِ الغافلينا
وإلا فالمصائبُ مطبقاتٌ
ونرجوا اللهَ دوماً أنْ يقينا