* ماذا تعرف عن (المحابس الناعمة) من زمن (كَرُونا الطائف) قبل خمسة عشر قرنًا؛ إلى زمن (كُورُونا الصين) الذي نعيشه..؟
* أكتب لكم من محبسي الناعم بالدار؛ وأنا أرى من خلف زجاج النافذة سماء الطائف المأنوس وهي تموج بغيوم داكنة. أخرج إلى الفناء متشوقًا لأيام الصفاء مع أجواء ممطرة كهذه. أقف لأتشوف هذه السحابة الفاتنة وتلك، وتتخطف بصري بروق تلوح قريبة وبعيدة، تتلوها رعود مزمجرة. أستقبل زخات مطر ندية في أجواء ربيعية في أيام الطائف الوردية. لم نتعود في الطائف المأمون؛ البقاء بالدور في مثلها، ولكنها إرادة الله ثم حربنا المقدسة مع كورونا اللعين.
* هذه هي الطائف التي عرفت (كَرُونا) لا (كُورونا) في عصرها الجاهلي، يوم حمل أحد أيام الاقتتال فيها هذا الاسم العجيب الذي لم أصل إلى تفسير له. هي الطائف التي أهدت الدولة الإسلامية بعد ذلك في العهد الأموي الزاهر؛ فكرة (المحبس الناعم)، فطبقه اثنان من الأمراء اللذين ينتسبان للطائف في القرن الهجري الأول لحفظ الأمن. أولهما هو (زياد بن أبيه) والي البصرة في عهد الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-. هذا الوالي كان أحد الأربعة الموصوفين بالدهاء في تاريخ العرب وهم: (معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة الثقفي، وزياد بن أبيه) -رضى الله عنهم-. هذا القائد الحاكم قال عنه الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله-: لولا نسبه المشكوك فيه؛ لأصبح سيد قومه. فزياد هو أول من فرض حظر التجول في التاريخ الإسلامي، بحيث يبقى الناس في دورهم فترة الليل غالبًا، فقد أعلن حالة الطوارئ في البصرة، وهدد بقتل كل من تسول له نفسه خرق حظر التجول، فقال في خطبته البتراء لدى توليه مقاليد السلطة: (لا أوتى بمدلجٍ إلا سفكت دمه). والمدلج من سار بالليل. وقام زياد بن أبيه بعدها بإعدام ثلاثة أشخاص نتيجة خرقهم حظر التجوال. أحدهم كان أعرابيًا وُجِد سائرًا في الطريق فسُئل: ألم تسمع بحظر التجوال..؟ فأجاب قائلاً: إنه من البدو، ولم يسمع شيئًا عن ذلك، وأن عنزته شردت منه، فجرى وراءها يبحث عنها. فقال له زياد بن أبيه: أصدقك في ذلك. ولكنه أمر بضرب عنقه ليكون عبرة لغيره.
* ابن الطائف الآخر الذي كرر تجربة (المحبس الناعم) أو منع التجوال؛ هو قاهر الخوارج (الحجاج بن يوسف الثقفي)، حاكم العراق والحجاز زمن ثلاثة خلفاء هم: (مروان بن الحكم، وعبدالملك بن مروان، والوليد بن عبدالملك)، ومن طريف ما يُروى في تطبيق أوامر الحجاج بمنع التجوال؛ أنه بينما كان الحرس يتجولون بعد صلاة العشاء وعندهم أمر بضرب عنق كل من يخالف أمر الحجاج، رأوا ثلاثة فتيان يتسامرون، فأحاطوا بهم، وسألهم كبير الحرس: من أنتم حتى خالفتم الأمر..؟ قال الأول:
أنا ابن الذي دانت الرقاب له
ما بين مخزومها وهاشمها
تأتي إليه الرقاب صاغرة
يأخذ من مالها ومن دمها
* فأمسك عن قتله. وقال: لعله من أقارب الأمير. ثم قال الثاني:
أنا ابن الذي لا ينزل الدهر قدره
وإن نزلت يوماً فسوف تعود
ترى الناس أفواجاً إلى ضوء ناره
فمنهم قيامٌ حولها وقعود
* فتأخر عن قتله. وقال: لعله من أشراف العرب الكرام. وقال الثالث:
أنا ابن الذي خاض الصفوف بعزمه
وقوّمها بالسيف حتى استقامت
ركاباه لا تنفك رجلاه منهما
إذا الخيل في يوم الكريهة ولّت
* فترك قتله، وقال: لعله من شجعان العرب. فلما أصبح؛ رفع أمرهم إلى الحجاج وأحضرهم، وكشف عن حالهم، فإذا بالأول: ابن حلاق (حجّام)..! والثاني: ابن بائع فول..! والثالث: ابن حائك ثياب..! فتعجب الحجاج من شعرهم وفصاحتهم، وقال لجلسائه: علموا أولادكم الأدب، فوالله لولا فصاحتهم لضربت أعناقهم. ثم أطلقهم وأنشد:
كن ابن من شئت واكتسب أدبًا
يغنيك محموده عن النسب
إن الفتى من قال ها أنذا
ليس الفتى من قال كان أبي
* ومن المحابس الناعمة الذاتية في تاريخنا العربي؛ ما اختاره لنفسه الشاعر الزاهد الفيلسوف: (أبو العلاء المعري ت 449هـ). الذي ابتلي بالعمى في سن السابعة، ثم فرض على نفسه العزلة في داره، حتى عرف بـ(رهين المحبسين).. العمى والدار، فهما أكثر ما لازمه طيلة حياته. إن محبس العمى ومحبس الدار؛ سوّدا الحياة في نظر أبي العلاء المعري، حتى اعتبر نفسه حبيسة في جسد خبيث، فأضاف بذلك محبسًا ثالثًا لذاته. قال:
أراني في الثلاثة من سجوني
فلا تسأل عن الخبر النبيث
لفقدي ناظري ولزوم بيتي
وكون النفس في الجسد الخبيث
* الحمد لله أننا في محابس ناعمة نواجه بها (كورونا). ناعمة.. لكنها قاهرة لهذا الوباء الغاشم -بإذن الله-. لم نعرف في بلادنا الآمنة طيلة حياتنا مثل هذه المحابس، ولا ما عرفته مجتمعات عربية وغير عربية من منع التجوال، الذي عادة ما يُفرض في ظروف عصيبة واضطرابات أمنية، فتلجأ إليه حكومات دول لحفظ الأمن بين الناس. نحن -بحمد الله- نمسي ونصبح على ما جاء في الحديث الشريف: (مَن أَصبح آمنًا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوتُ يومه، فكأنما حيزَت لهُ الدنيا بحذافيرها). الأمن فينا متحقق، فيسهل بعد ذلك علاج المريض وإطعام الجائع. الأمن أولًا:
إذا اجتمع الإسلام والقوت للفتى
وكان صحيحًا جسمه وهو في أمن
فقد ملك الدنيا جميعًا وحازها
وحُقّ عليه الشكر لله ذي المنِّ