حظيت الترجمة منذ زمن بعيد وحتى اليوم باهتمام إقليمي ودولي كبيرين نظرا لأنها تمثل همزة الوصل في التواصل والتفاهم بين الحضارات والثقافات المختلفة لدول العالم. ونعلم أنه من دون الترجمة فانه لم ولن يكون بالإمكان مد جسور للتواصل الاجتماعي والتفاهم العلمي والتبادل التجاري مع الدول الأخرى ذات الثقافات المختلفة. وباستعراض الدراسات السابقة، ومن خلال البحث العلمي ودراسة نظريات الترجمة الى جانب دراسة علم اللغة المقارن أثناء مراحل دراستي محليا وخارجيا، ومن واقع خبرتي الطويلة أيضا في هذا المجال المعرفي، فاني أرى أن الترجمة فنا من الفنون لا يجيده كل منتسب اليه، أو كل متحدث بلغة أجنبية، أو حتى كل منتسب الى أبوين ينتمي كل منهما الى ثقافة مختلفة لغويا واجتماعيا.
هذا المجال لا يقترب منه كل من يخشى مسؤولية الترجمة في تحمل تبعات الخطأ وعثرات اللسان في النقل بين اللغات. فالخطأ أثناء الترجمة الفورية قد يصل الى حد اتخاذ قرار بإعلان الحرب بين دولتين أو قطع العلاقات الدبلوماسية بينهما. كما أن الأخطاء في الترجمة الطبية مثلا قد تؤدي الى تعريض حياة المريض للخطر ان لم يكن المترجم عارفا بلغة Medical jargon ومؤهلا لهذه المهمة بما لديه من مخزون معرفي يشتمل على معاني المصطلحات الطبية والتعابير الشائعة للغة التي يترجم اليها ويتفاوض مع المتحدث بها نيابة عن المريض، اذ أن تشخيص الطبيب المعالج سيعتمد على وضوح معلومات التاريخ المرضي للحالة قيد الفحص والتشخيص.
ولذلك، وبدلا من أن تكون الترجمة جسرا للتفاهم، فربما تتحول الى قنبلة موقوتة حينما لا يكون المترجم خبيرا وأمينا ويقظا ولغويا ماهرا وواثقا من المامه التام باللغتين المصدر والهدف. ومنذ عصر النهضة الأوروبية يدرك الجميع الدور المهم للترجمة في اثراء الدراسات والأبحاث العلمية للدول الغربية التي ما كان لها أن تتقدم علميا لولا مبادراتها بترجمة كتب الرواد المسلمين في مجالات الطب والفلك والرياضيات وغير ذلك من العلوم والاكتشافات التي توصل اليها العلماء خلال عهود الدولة الإسلامية المتعاقبة.
ولإثراء مسيرة الحراك العلمي والتفاعل الثقافي للحاق بركب التقدم العلمي فقد برزت الحاجة في الدول العربية الى توحيد المصطلحات العلمية وانشاء أقسام علمية في الجامعات العربية لتدريس وتشجيع الطلاب على التخصص في مجال الترجمة من أجل مواكبة حركة التقدم والتطور العلمي في الدول الغربية لتوطين التقنية الحديثة في المجالات المختلفة. وفضلا عن أهميتها من الناحية العلمية، فان للترجمة أهمية قصوى من ناحية جس نبض الدول المعادية لكشف نوايا الأعداء واحباط مخططاتهم قبل البدء بتنفيذها. ومما يدعم ذلك بأهمية الترجمة هو القول الشائع : " من تعلم لغة قوم أمن مكرهم".
غير أن ممن لا يعرف طبيعة الترجمة وحجم المجهود الذهني المبذول، فقد يقول أحدهم إن المعاجم الثنائية أو الأجهزة الذكية اليوم توفر تطبيقات وبرامج لترجمة النصوص المختلفة بسرعة عالية ودقة متناهية. وهذا صحيح من ناحية السرعة فقط وليس من ناحية الجودة والدقة والوضوح. فالمشكلة في الترجمة الآلية أنها لا تنقل لنا روح النص في اللغة المصدر كونها تتعامل فقط مع البناء السطحي للنص المكتوب ما يجعل النص المنتج ركيكا في أسلوبه وغامضا في معناه. فهذه التطبيقات مهما كان حجم ذاكرتها من المفردات، فإنها لن تتمكن مطلقا من الوصول الى عمق النص حيث يستطيع المترجم البشري المحترف أن يغوص في أعماق النصوص حتى وصوله لمستوى فهم نوايا المتحدث أو نوايا الكاتب ومقاصده وأهدافه التي لا تكون في الغالب ظاهرة بشكل كاف وانما يتم التوصل اليها من خلال التحقق وتحليل الخلفية الثقافية وفقا لسياق النص ومقارنتها بما قد يقابلها أو يناسبها في ثقافة اللغة الهدف، ثم الاستنتاج النهائي لإخراج النص المترجم بحلته الجديدة في اللغة الهدف.
ولكن هل يكفي الالمام بعلم اللغة لإنتاج واخراج نص مترجم مقبول؟ الجواب طبعا لا، اذ لا بد من فهم الخلفية الثقافية للنص اللغوي في اللغة المصدر حيث سينقل منه المترجم المعاني والدلالات بما يتناسب مع السياق في اللغة الهدف، ذلك أن فهم الثقافة مهم جدا وضروري لفهم النص الأدبي مثلا.
من كل ما سبق يتضح لنا وجود مشكلات في الترجمة Problems in translation ولذلك يجب على كل ممارس للترجمة أو مهتم بها أن يفهم طبيعتها جيدا لينتقل بعد ذلك الى مرحلة تحليل النص ثم محاولة التوصل الى صيغة لغوية تكون مقبولة عند المتلقي بشرط ألا تخرج هذه الصياغة عن إطار الأمانة مع النص في اللغة المصدر مع الاجتهاد والتصرف أحيانا في تفسير المصطلحات والعبارات والمفاهيم ان لم يكن لها ما يقابلها في ثقافة اللغة الأم.
ومن أهم تلك المشكلات هو تدخل اللغة الأم أثناء عملية التأمل في النص الأجنبي حيث يشعر المترجم بأن جذور لغته الأصلية تشده بقوة كملاذ آمن لمشكلات الترجمة من لغة أجنبية غريبة، فيضطر هنا الى ما يشبه طلب المساعدة من الثقافة الأم الأمر الذي قد يؤدي الى انحراف عملية الترجمة نحو مسار بنيوية النص في اطار قواعد الصرف والنحو في لغته الأم. وحينئذ سيكون النص المنتج أشبه بهدية أجنبية مغلفة بغطاء ثقافي لا ينسجم مع مضمون ودلالات النص في اللغة المصدر مما قد يدفع بالمترجم للتورط في مشكلة كبيرة. ولعل من المناسب أن أوضح ذلك في نص مُترجم مثل:
You are invited to take advantage of the chamber maid.
في المثال أعلاه، أراد كاتب النص أن يقول لنزلاء فندق: " يمكنكم الاستفادة من خدمات عاملاتنا في غرف الفندق". ولكن بسبب اعتماده على قوالب اللغة الأم, فقد أوقعه ذلك في خطأ محرج للغاية، فهذه الجملة تنطوي على دلالات جنسية بالنسبة للناطقين بالإنجليزية، اذ انحرف معنى الجملة ليعطي دلالة باستغلال عاملات الغرف. ولمعالجة أو تصحيح هذا الخطأ ينبغي أن نقول:
Make use of our room services, or: Please make use of the chamber services.
فالمشكلة في المثال السابق تكمن في تدخل اللغة الأصلية أثناء عملية انتاج النص عندما ابتعد المترجم عن ترجمة المفهوم وجعل تفكيره مقيدا بقواعد البناء اللغوي. ومن هنا ينشأ الاختيار الخطأ للمفردات المقابلة في اللغة المترجم اليها.
ومن المشكلات الأخرى تعدد المعاني للمفردات في اللغة الانجليزية مثلا, اذ أن كل كلمة تقريبا يتغير معناها عند استخدامها في سياق مختلف، ما يعني أن المعنى يتأثر بالكلمات المجاورة في الجملة. كما تعد مشكلة التقيد بالنص في اللغة المصدر من أهم المشكلات في عملية الترجمة حيث يجد المترجم نفسه مقيدا بالنص في اللغة المصدر مما يعيق الحركة الإبداعية في نقل الصور الجمالية في النص الأصلي. فالمترجم لا يملك حرية مطلقة في التعبير عن وجهة نظره وأفكاره لكنه يتحرك في حدود ضيقة وضمن نطاق يسمح له الى حد ما بالخروج عن النص لشرح فكرة ما أو مفهوم غير ذي مقابل في لغته الأم.