إن القادة العظماء لا يتميزون بشخصياتهم وفلسفاتهم بل بمنطق فعلهم، كيف يفسرون سلوكاتهم وسلوكات غيرهم وكيف يحتفظون بالسلطة أو يحمون أنفسهم ومؤسساتهم ضد الأخطار؟ ومع ذلك فهناك عدد قليل نسبياً من القادة ممن يحاولون فهم منطق فعلهم، وهناك عدد أقل منهم ممن قد فكروا في إمكانية تغييره.
وقد طرح عالمي الإدارة ( ديفيد روكي، ووليام توربرت، 2012م )، مستويات من أنماط الفعل للقادة والمديرين في المؤسسات والشركات الربحية وغير الربحية، ويقوم هذا التصنيف على النمط الذي يغلب على سلوك المدير وفهمه لطبيعة العلاقات من حوله، بحيث لا يضفي شكل من أشكال القوالب لشخصيات المديرين، بل يحدد النمط الذي يحضر بشكل غالب على أفعاله ومنطلقات تفكيره، وبوادر سلوكه تجاه المؤسسة والعاملين معه.
ويتضح من خلال استعراض تصنيف الأنماط للقادة، أن جميع أسس ذلك التصنيف لها ارتباط وثيق بالاعتقادات التي ينبع منها السلوك، والاعتقادات تحددها معايير قيمية، إذن نحن بالتأكيد أمام احتياج تدعمه النظرية والبحث لمفهوم القيادة بالقيم.
إن مفهوم القيادة بالقيم قد ورد في صورة عدد من المصطلحات التي تعبر عن أهدافه، إذ استخدم (سينبرغ، 1998م) مصطلح (الإدارة بالضمير) هادفاً إلى تقديم خيار حديث لتحقيق النجاحات طويلة الأمد، مؤكداً على أن دوام استقرار النجاح هي صفة لا تتكون إلا بإدارة راسخة تعتمد على استحضار القيم واعتمادها في جميع العلاقات والتعاملات، ثم قدم بعد ذلك مايكل أوكونور وكينيث بلانكارد (2000م) نظرية الإدارة بالقيم باعتبارها اتجاهاً إدارياً حديثاً لمنظمات القرن الواحد والعشرين، وهي نظرية تتعامل مع الجانب الإنساني في الإدارة، وتحاول تفهم أثر القيم الفردية والعامة في المنظمات ومن تلك النظريات ما قدمه كل من وندال وباجر (2003م) في نظرية القيادة المعتمدة على القيم، ثم أضافت سوزان أطلس (2002م) تسمية أخرى وهي القيادة باستخدام القيم (صدام، 2004م، ص7).
جاءت بعد ذلك أطروحة ستيفن كوفي الشهيرة (2005م، ص32) القيادة المرتكزة على المبادئ واصفا بها خصائص القادة الذين ترتكز قيادتهم على المبادئ والقيم، حيث ذكر أن هذا النوع من القيادة يجعل القادة دائمو التعلم، ويتمتعون باستعداد لإسداء الخدمات، كما أنهم مفعمون بالطاقات البناءة، وهم كذلك يؤمنون بجوهر الآخرين الإنساني، ويحيون حياة متزنة، ويعتبرون القيم مرتكزاً مهما في علاقاتهم مع زملائهم في العمل. وقد ظهر مفهوم القيادة بالقيم في الوطن العربي في العديد من المؤلفات والدراسات كان من أوائلها نظرية "I" للتفوق الإداري (الإدارة بالقيم) للدكتور عبدالمعطي العساف (2005م) أعقب ذلك نظرية الإدارة بالقيم لدى مرغاد بالخضر ورايس حده (2006م) وتوالت الدراسات والمؤلفات حول القيادة بالقيم وأخذت مصطلحات مقاربة مثل كتاب الدكتور أحمد الكبير القيادة الأخلاقية من منظور إسلامي (1436ه).
وقد دعمت نتائج أبحاث روكي وتوربيت (2012م) بشكل أو بآخر ما أفضت إليه دراسات القيادة بالقيم سابقاً، حيث خرجوا بتصنيف أنماط منطق الفعل القيادي إلى سبعة مستويات على النحو الآتي :
1- القائد الانتهازي :
يتصف هذا القائد بالتشكك والارتياب والنرجسية والمناورة ، ويركز على المكاسب الشخصية وينظر للعالم والناس بصفتهم فرصاً للاستغلال ، حيث تتحد نظرة القادة الانتهازيين إلى العالم الخارجي بمفهومهم للسيطرة ، وبعبارة أخرى ، تعتمد ردة فعلهم تجاه حدث ما على اعتقادهم أو عدم اعتقادهم أنهم يستطيعون التحكم في النتائج .
إنهم يعاملون الناس الآخرين بوصفهم أشياء أو منافسين ويحاولون أيضاً أن يكونوا أنانيين، ويهتمون بأنفسهم . ويرفضون التغذية الراجعة ويلقون الفشل على الآخرين ويلومنهم بقسوة.
2- القائد الدبلوماسي :
يفهم الدبلوماسي العالم من حوله بطريقة لطيفة أكثر من طريقة الانتهازي، لكن يمكن أن تكون لطريقة التفكير هذه نتائج سلبية جدا ً عندما يكون القائد في المناصب العليا للمؤسسة التي ينتمي لها، حيث يخدم الدبلوماسي مجموعته بإخلاص ، ويسعى إلى إرضاء زملائه في المناصب العليا تجنباً للصراع، حيث يركز منطق الفعل على تحكم الفرد في سلوكه أكثر من تركيزه على السيطرة على الأحداث الخارجية ، ويصبح الدبلوماسيين سبباً للمشكلات في المناصب العليا لأنهم يحاولن تجنب الخلاف ، والتركيز على العلاقات وتحييد مواجهة المشكلات التي يبرز فيها الصراع التظيمي أو أخطاء العمل الواضحة . لذلك تكون المبادرة بالتغيير مع مايرافقها من خلاف ومعارضة أحد التهديدات المزعجة للدبلوماسي وسوف يسعى تجنبها قدر الإمكان حتى إلى درجة تحطيم الذات .
3- القائد الخبير:
يظهر القادة الخبراء على عكس الانتهازيين الذين يركزون على محاولة السيطرة على العالم من حولهم، والدبلوماسيين الذين يركزون على السيطرة سلوكهم الخاص، حيث يحاول الخبراء ممارسة السيطرة والتحكم من خلال تحسين معرفتهم في حياتهم المهنية والشخصية، ويتصفون بالتفكير الصارم والاتباع الكامل للإجراءات والمفاهيم الإدارية التي استوعبوها بالكامل من خلال اطلاعهم المستمر لتفاصيل وإجراءات وأنظمة العمل.
ونظراً لثقتهم بخبرتهم فإنهم يعتمدون على البيانات الدقيقة والمنطق في جهودهم، لضمان الموافقة على مقترحاتهم ودعمها. ويعانون من ضعف الاهتمام بالجوانب الأخرى ذات العلاقة بالقيادة كالتحفيز والإلهام والرؤى الاستراتيجية البعيدة، إنهم يفكرون في حدود دائرة وحيدة تتعلق بالإجراءات والقوانين وتراكمات الخبرة الوظيفية .
4- القادة ذوي الإنجازات العالية :
هذا النوع من المديرين يتحدى الموظفين ويساندهم في الوقت نفسه، ويكون معهم فريقاً إيجابيا ً ويوجد جواً تعاونياً بين الأقسام ويحرصون على أن تكون بيئة العمل إيجابية، ويركزون جهودهم على المخرجات الفعلية والأهداف القابلة للتحقيق، ويتقبلون التغذية الراجعة بصدر رحب، ويحاولون الاستفادة منها في تدارك الأخطاء، لكن أسلبوهم غالباً ما يمنع التفكير خارج الصندوق. كما أنهم لا ينسجمون في التعامل مع الموظفين والقادة الخبراء، فمثلاً يجد القائد الخبير أن من الصعب عليه تقبل المدير الساعي إلى الإنجازات العالية ،لأنه لا يستطيع إنكار نجاح القائد المنجز مع أنه يشعر بأنه أفضل منه.
5- القائد المتفرد :
يدرك القائد المتفرد المواقف العملية بطريقة أكثرا ً تجردا ً وتأويلاً، ويستطيع التعامل مع الفكر المختلف بصورة تميزه عن الآخرين أو عن الفكر السائد، وما يميزهم أيضاً إدراكهم أنه يمكن حدوث صدام بين مبادئهم وأفعالهم أو بين قيم مؤسستهم وتطبيقها هذه القيم، حيث يصبع الصراع مصدر توتر وإبداع، ويزيد من الرغبة في إجراء مزيد من التطور، ويميل المتفردون أيضا ً إلى تجاهل القوانين التي يعتقدون أنها غير ضرورية ، وهذا ما يجعلهم مصدر توتر لزملائهم ورؤسائهم .
6- القائد الاستراتيجي
القادة الاستراتيجيون يركزون على القيود والرؤى التنظيمية التي يتعاملون معها على أنها أشياء قابلة للنقاش والتغيير ، حيث يتقنون التحكم في التأثير التنظيمي للأفعال والاتفاقات وفهم الرؤى المشتركة عبر طرق الفعل المختلفة باتجاه كل ما يشجع التحولات التنظيمية والشخصية، يتعامل الاستراتيجيون مع النزاع بسهولة أكثر من أصحاب الأنماط الاخرى ، ويتقنون أيضا ً معالجة الرفض الغريزي للتغيير ، وبالتالي هم أكثر القادة نجاحاً في إحداث التغيير والتحولات التنظيمية الشاملة.
7- القائد الكيميائي :
هذا النمط من أكثر الأنماط ندرة في مستويات القيادة ، حيث يكون لديهم القدرة على تجديد أنفسهم ومؤسساتهم أو إعادة اكتشافها بطرق ذات دلالات تاريخية مهمة، ففي الوقت الذي يستطيع فيه الاستراتيجي الانتقال من إحداث التغييرات من مرحلة إلى أخرى، يتمتع الكيميائي بقدرة على التعامل مع مراحل التغييرات في وقت واحد، ويختصر الكثير من الجهد والوقت لفريق العمل، ويتعامل مع أوضاع مختلفة بمستويات متعددة حيث يستطيع أيضا على مخاطبة الملوك والعامة في آن واحد، وهو يستطيع التعامل مع الأولويات السريعة، لكنه في الوقت ذاته لا يغفل عن الأهداف طويلة المدى، إنهم ليسوا في عجلة من أمرهم، كما أنهم لا يخصصون ساعات طويلة في نشاط واحد بعينه، وعادة ما يتمتعون بشعبية كبيرة وهم أفراد واعون يعيشون وفقا لمعايير أخلاقية عالية، ويركزون على الحقيقة، لكن الأهم من كل هذا هو قدرتهم على التقاط اللحظات المهمة في تاريخ مؤسساتهم، ويعتمدون نظماً ورموزاً وشعارات تأسر قلوب الناس وعقولهم.
ويظهر بوضوح أن منطق الفعل في كل مستوى يتأثر تأثراً مباشراً بمنطق القيم التي يتبناها القائد في فهمه وتفسيره لسلوكياته، وفي أفعاله أثناء ممارسة القيادة، حيث كان النمط الانتهازي أبعد هذه الأنماط عن الالتزام بقيم مرجعية تحدد السلوك، فالقيادة بالقيم في هذا النمط شبه منعدمه، وهذا سبب وجيه ليكون حسب أبحاث (روكي وتوربيت، 2012) أقل القادة نجاحاً وأكثرهم ضرراً بعمل المؤسسة . بينما نجد في أعلى سلم هذا التصنيف ( نمط القائد الكيميائي) وهو شخصية يتبنى قيم ومبادئ ويعرف كيف يعكس هذه المبادئ على المؤسسة وأفرادها، كما أنهم يتمتعون بشعبية كبيرة لحسن علاقتهم مع الآخرين وقدرتهم على تغيير أنفسهم والآخرين بالإلهام وصناعة الرؤى المحفزة للتغيير، وتتسم قيادتهم بالارتكاز على معايير أخلاقية عالية، كما أنهم يهتمون بالحقيقة ويتبنونها في المواقف المتعددة لعمليات القيادة.
ويشير جيمس وبوسنر (2005م، ص72) ﺃﻫﻤﻴﺔ القيادة القيم في ﻗﻭﻟﻬﻤﺎ: " إن ما يميز أغلب القادة العظام وأكثر ﺍﻟﻘﺎﺩﺓ جذباً ﻟﻺﻋﺠﺎﺏ هم أصحاب ﺍﻟﻤﺒﺎﺩﺉ وإيمانهم العميق بما يحملونه من قيم "، وهو ما ذهب إليه (توم بيتر) مؤلف ﺍﻟﻜﺘﺎﺏ ﺍﻟﻤﺸﻬﻭﺭ (بحثاً عن الامتياز) الذي أعطى نصيحة جوهرية واحدة تفي بجميع ﺍﻷﻏﺭﺍﺽ ﺍﻟﺘﻲ تساعد المنظمات في تحقيق الامتياز وهي : عليك بتحديد منظومة القيم.
ليس من العسير على القائد أن يفهم نمط فعله ، بل بإمكانه تغيير هذا النمط ، وستكون القيادة بالقيم هي المسار المناسب والمضمون لنجاحه وتحقيق أهداف المؤسسة التي يقودها .