طلع صباح يوم الخميس الفارط على السودان بخبر أثار من الجلبة و الإهتمام ما أثار، فقد تم إعلان تنحي الرئيس السوداني عمر البشير أو بالإحرى عزله من قبل المؤسسة العسكرية السودانية التي قادها يوما لينقلب على حكومة الصادق المهدي ذات صيف في 1989 و يمسك بالسلطة إثرها لثلاثين سنة كاملة دون أن يعلم ربما أن نهاية حكمه ستكون بإنقلاب مشابه
فبعد الإحتجاجات الشعبية في السودان و التي أخذت تتصاعد حدتها في الأيام القليلة الماضية أصبح محتملا سقوط الرئيس البشير تحت ضغط الشارع و صرخته لكن أن يستعجل الجيش السوداني ذلك و يُجمع من كان ينتظر من ضباطه هذه الفرصة أمرهم و يحرروا بيانهم الأول على عجل فلم يكن منتظرا حتى من السودانيين أنفسهم ربما، لتطبق آليات عسكرية على مقر قيادة الجيش السوداني بالخرطوم حيث يقيم الرئيس السوداني المعزول عمر البشير و يوضع تحت الإقامة الجبرية و يعتقل أهم رجالاته و قيادات حكومته و حزبه ليكمل رسم صورة الإنقلاب العسكري البيان الأول الذي أصدرته المؤسسة العسكرية و أعلنت فيه و للأبد نهاية الحياة السياسية للبشير
و قد خرج البيان الأول أخيرا إثر عزل البشير و الإنقلاب عليه و الذي ترأس إعلانه وزير الدفاع السوداني عوض بن عوف معلنا تولي المجلس العسكري الإنتقالي حكم البلاد لفترة إنتقالية تمتد لسنتين و فرض حالة الطوارئ لثلاثة أشهر أو ربما تمدد لأكثر من ذلك، و لكن الرفض الشعبي و موقف تجمع المهنيين السودانيين المعارض صراحة لمدة الفترة الإنتقالية و حثهم و القوى المعارضة الأخرى للمعتصمين بمواصلة إحتجاجاتهم حتى تسليم السلطة لحكومة مدنية ساهم في دفع ديناميكية التحول السياسي السوداني و حال دون البرود السياسي للأحداث القائمة في البلاد أو إكتفاء الجماهير الغاضبة بمرحلة إزاحة الرئيس
يمكننا فهم المشهد السوداني بالإعتماد على هذه الحيثيات على أنه طي لصفحة البشير و إعادة تموقع للمؤسسة العسكرية يقودها وزير الدفاع بن عوف يقابله رفض شعبي و مدني ما يعني إستمرارا لحالة التصادم بين الطرفين و المؤهلة للإنزلاق نحو الفوضى، و لكن التطور السياسي الأخير و الذي بلورته إستقالة بن عوف من رئاسة المجلس العسكري الإنتقالي و إعلان الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيسا للمجلس خلفا له جعل من مآلات الحالة السودانية غير محتومة بشكل محدد من الأحداث و التطورات، بل ما يراه البعض مناورة من طرف المؤسسة العسكرية السودانية بإيصالها للفريق أول عبد الفتاح البرهان و دفعها لوزير الدفاع بن عوف خارج المشهد السياسي و هو الذي لن تمحى ببقائه صورة النظام السابق يراه شق آخر خطوة إصلاحية هامة و أولى محطات الإنتقال السياسي المتدرج في البلاد، و هو ما يعني ضمنا خروج الحالة السودانية من معادلة الشعب الثائر و الرافض بكل أطيافه للنظام و ذلك النظام ذاته المتعنت و القامع للحراك الشعبي و عليه يستنتج مدى تجاوز البلاد لفرضية الإصطدام و الفوضى
عربيا، كان الموقف الرسمي للجامعة العربية مؤكدا على الحوار بين الأطراف السياسية لتلبية تطلعات الشعب و هو ما تشترك فيه مواقف أخرى لأطراف دولية و أممية ليكون الموقف السعودي و الإماراتي الأبرز عربيا بدعمهما لخطوات المجلس العسكري الإنتقالي و تقديم الدعم المادي للسودان فيما يبدو أن المجلس العسكري قد أجرى إتصالات مع أطراف محلية و عربية أبدى خلالها إحتياجات البلاد لبعض الموارد الأساسية، و بين هذا و ذاك تظهر الأهمية الإستراتيجية التي توليها السعودية و الإمارات لتطورات الوضع في السودان لما له من بعد أمني و جيوسياسي مؤثر في منطقة الشرق الأوسط و حوض البحر الأحمر يتجاوز الداخل السوداني إلى جانب قراءتها للتطورات الحاصلة من منظور سياسي تتداخل فيه الأدوار و تتزاحم ضمنه الأطراف الخارجية المهتمة بالسودان و موقعه، و عليه فمن المتوقع أن يتواصل الدعم و التواصل مع المجلس العسكري الإنتقالي و إعتباره ضمانة التحول السياسي الهادئ في البلاد بغض النظر عن مدى تطور حالة الإحتجاج الشعبي و السياسي على آلية نقل السلطة لحكومة مدنية رفضا أو إيجابا
لكن الحالة السودانية تدعونا للوقوف عند نقاط مهمة تعبر عن جوهر التطورات التي شهدتها المنطقة العربية لعشر سنوات خلت، حيث دارت و لا تزال التدافعات الشعبية و السياسية في الدول التي طالها التغيير السياسي حول أساسين و دعامتين إجتماعيتين محوريتين، تقوم الأولى على الوضع السياسي في البلاد و مدى تصالح النظام القائم مع القوى و الأطراف السياسية و تدوير حالة صحية من التكامل من عدمه و تنبني الثانية على دور النظام في تنمية الإقتصاد المحلي و النهوض بالمستوى المعيشي الشعبي أو المساهمة سلبا في ذلك بدفع البلاد نحو عجز مالي و إحتدام طبقي يعززها التضخم و إنهيار القدرة الشرائية المحلية، و إن ذلك لا ينعزل بحال عن الأساس الأول المتعلق بالوضع السياسي إذ كيف لمؤسسة نقابية كتجمع المهنيين السودانيين مثلا و الذي تأسس من بضع سنوات من قبل مائتي أستاذ بجامعة الخرطوم أن تقود إحتجاجات شعبية تطورت من رفض الحالة الإقتصادية و المعيشية المتردية في البلاد إلى مطالبة بإسقاط نظام عمر البشير و نجحت في ذلك لولا التفاعل السياسي بين السببين، كما لا يخفى أن نلاحظ الصعود السياسي لدور النقابات و التجمعات العمالية في الحياة السياسية بالجمهوريات العربية و هو ما يذكرنا بدور الإتحاد العام التونسي للشغل و الدور الذي لعبه منذ سقوط نظام بن علي و حتى تأثيره لاحقا في الواقع السياسي بشكل محوري، ما يعني أن تجمع المهنيين السودانيين لن يكون حالة عابرة ضمن القوى المعارضة التي ساهمت في إسقاط نظام البشير رغم الطبيعة العسكرية للنظام في السودان حتى هذه المرحلة على الأقل، و هو ما يتقاطع مع دور نادي القضاة في الجزائر و التي شهدت تحولا سلسا في رأس النظام "العسكري" يفضي إلى مرحلة إنتقالية فإنتخابات رئاسية حيث برز دوره كداعم للمطالب الشعبية
و مهما يكن من أمر، فإن الوضع السياسي في السودان يغلب عليه التوقع القائم على أساس الهدوء الشعبي التدريجي خاصة مع إطلاق المجلس العسكري الإنتقالي خطوات إصلاحية كملاحقة المسؤولين المتورطين في قضايا فساد من النظام السابق و إطلاق سراح المعتقلين السياسيين و التعامل الإيجابي مع الموقف الشعبي خاصة و أن تعيين الفريق أول عبد الفتاح البرهان و إستقالة بن عوف يرسم وجها سياسيا جديدا للبلاد و يمتص بلا شك شيئا من الغضب الشعبي إلى حين، فيما أن الدور القادم للقوى المعارضة و بروز لاعب سياسي جديد على الساحة السياسية في السودان يمثله تجمع المهنيين السودانيين سيحدد مستقبل الإنتقال السياسي في البلاد بتسليم السلطة لحكومة مدنية و تحقيق المطالب الشعبية أو إنهيار حالة الثقة بين الطرفين برسكلة النظام السابق و ترشيح الوضع للتأزم من جديد .
عبد الفتاح بن عطية
كاتب صحفي