يعد المهرجان الوطني للتراث والثقافة الذي تنظمه وزارة الحرس الوطني في الجنادرية سنويا منذ عام 1405هـ وحتى الآن مناسبة تاريخية سعودية في مجال الثقافة ومؤشرا عميق الدلالة على الاهتمام بالتراث والتقاليد والقيم العربية الأصيلة حيث يهدف إلى التأكيد على الهوية الوطنية وتأصيل الموروث السعودي بشتى جوانبه، والمحافظة عليه ليبقى ماثلا للأجيال القادمة.
انبثقت فكرة المهرجان من الرغبة في تطوير سباق الهجن السنوي الذي اكتسب شعبيةعلى المستوى الوطني الإقليمي إلى فكرة إقامة المهرجان الذي يضم قرية متكاملة للتراث والحلي القديمة ومعارض للفنون التشكيلية والأدوات التي كان يستخدمها الإنسان السعودي في بيئته قبل أكثر من ستين عاما. يهدف مهرجان الجنادرية إلى تأصيل الثقافة والموروث الوطني ومحاولة الإبقاء والمحافظة عليه ليبقى ماثلا للأجيال، جيل بعد آخر، حيث يتم عرض عدد من الحرف والمهن الشعبية مثل الصناعات الجلدية والخشبية والمعدنية والفخارية والنسيجية والفضية، إضافة إلى عرض للملابس الشعبية والملابس التقليدية والأسلحة القديمة، وإلى إقامة صور حية للحياة اليومية في المملكة ومنها المزارع وحياة الفلاحين، ومدرسة الكتاتيب التي تعلِّم الأطفال القراءة والكتابة، وصور اجتماعية كاحتفالات الأعراس وأزيائها وأهازيجها، ومن ضمن فعاليات المهرجان أيضاسباق الهجن والسوق الشعبي وأمسيات الشعر الشعبي وتقديم الألعاب الشعبية.
إن مهرجان الجنادرية كموروث شعبي تتجسد فيه عادات وثقافة المملكة العربية السعودية ساهم ويساهم بدرجة كبيرة في إحياء التراث وترسيخ الهوية الوطنية تجتمع فيه كل أطياف المجتمع من جميع مناطق المملكة المترامية الأطراف لتلتقي في قرية واحدة متكاملة تجمعهم العقيدة واللغة والوطن لتذوب وتنصهر مفاهيم الحزبية والعصبية والقبلية ويحل محلها مفاهيم التكامل الوفاء
والولاء والانتماء والوحدة والعمل البناء.
يمكن القول إن مهرجان الجنادرية هو ملتقى السعوديين الثقافي والحضاري والتقني والفني الذي يمثل الوطن بجميع أقطاره ومناطقه ومدنه وتراثه، يقف في مصاف أكبر المهرجانات على الصعيد الإقليمي والدولي حيث يقوم بتقديم تراث الآباء والأجداد للأجيال الجديدة للحفاظ على الهوية الوطنية، وترسيخ المعالم والسمات المميزة للمجتمع السعودي وما ينعم به من نهضة، وصورة حية لوطن يسير بخطى على طريق التطور دونما انفصال عن ماضيه العريق ليحقق بذلك معادلة
النهضة التي تجمع بين الأصالة والمعاصرة وفق رؤية 2030. مما لا شك فيه أن المهرجان الوطني حقق إنجازات وطنية وساهم في تأسيس البنية التحتية
لثقافة “الحوار الوطني، وساهم في الدعوة إلى ممارسات حضارية لــ “الحوار العربي- العربي” و”الحوار الإسلامي- الإسلامي” بل إنه أسس لثقافة الحوار الإنساني بين مختلف الحضارات والثقافات من خلال تكريس ثقافة الحوار مع “الآخر” والتعامل الحضاري مع الاختلاف الإيجابي من خلال دعوته لضيف الشرف الذي يتمثل في استضافة نوعية لإحدى دول العالم بشكل سنوي
حيث ستكون (جمهورية إندونيسيا) ضيف هذا العام 2018م. إن كثيرا من المراقبين لمسيرة الجنادرية يؤكدون على أنها أصبحت بوابة على العالم
بمختلف ثقافاته وحضاراته وأديانه من خلال تاريخ طويل تجاوز ثلث قرن من التفاعل البناء مع دوائر الفكر والثقافة والسياسة، كما أنه أصبح نافذة حقيقية للدخول إلى المشهد الثقافي المحلي بالنسبة للمثقفين العرب والغربيين، كما صاغ واحة حوار جميلة بين المثقفين السعوديين والعرب
على مختلف أطيافهم الفكرية. إن من أعظم المكاسب لضيوف المهرجان – وهم من النخب المحلية والعربية والعالمية
أصحاب الشهادات العليا- الذين تستضيفهم وزارة الحرس الوطني من داخل وخارج المملكة هو فرصة مقابلة خادم الحرمين الشريفين والتشرف بالسلام والانصات إليه، كما يحرص القائمين على المهرجان الوطني للتراث والثقافة على احتكاك المثقفين السعوديين مع غيرهم من الدول الأخرى،
1
وأهمية دورهم البارز في التواصل مع ثقافتهم وحرصهم على التعرف على عناصر موروثهم الشعبي وعلى تلاحم أبناء الشعب السعودي، بجميع أطيافه ومناطقه، وأكبر شاهد على ذلك انتشار فعاليات المهرجان على مستوى إمارات المناطق، والجامعات والأندية الأدبية والمراكز الثقافية في جميع أنحاء المملكة، ومن أهم فعاليات المهرجان العرضة السعودية والتي يرعاها خادم الحرمين الشريفين كأحد أهم نشاطات المهرجان الوطني للتراث والثقافة والتي تعبر عن وحدة الوطن واتحاد الشعب والقيادة وتمثل تجسيدا لعزة الأمة وقوتها وتماسكها حيث ستقام العرضة السعودية لهذا العام يوم الثلاثاء 1440/5/18هـ الموافق 1019/1/25م وذلك في الصالات الرياضية بالدرعية (نحمد الله جت على ما نتمنى.. من ولي العرش جزل الوهايب) هكذا يردد السعوديون هذا البيت جماعيا مغنى ومطعم بأصوات الطبول ولمعان السيوف في كل احتفالاتهم الوطنية وغير الوطنية. وتعتبر العرضة السعودية ـ وهي أشبه بالرقصة الرسمية للبلاد ـ الحاضرة الدائمة في كل المناسبات، التي يشارك الملك والأمراء المواطنين فيها، على أصوات الطبول، ويجدون فيها تعبيرا عن الفرح والسلام، وأيضا هي أشبه بتجديد الولاء للملك لأنها كانت رقصة الحرب في زمن الحروب. وجاءت العرضة تطورا لعادة عربية قديمة عرفها العرب منذ الجاهلية في حالة الحرب، وإن كان لا توجد نصوص في التراث العربي القديم، يستطاع من خلالها الربط بينها وبين واقع العرضة التي تعرف اليوم. لكن الملاحظ وبكل وضوح، أن أركان العرضة الأساسية كانت ملازمة للحرب منذ الجاهلية، فالطبول تقرع منذ القدم في الحرب، والسيف يحمل، والشعر الحماسي عنصر أساسي من عناصر الحرب، وتعد العرضة النجدية ـ وكما هو معروف ـ فنا حربيا كان يؤديه أهالي نجد بعد الانتصار في المعارك، وذلك قبل توحيد أجزاء البلاد عندما كانت الحروب سائدة في الجزيرة
العربية. ومن مستلزمات هذا اللون من الفن الراية والسيوف والبنادق للمنشدين قصائد الحرب،
بينما هنالك مجموعة من حملة الطبول، التي يضربون عليها بإيقاع جميل متوافقا مع إنشاد الصفوف، ويطلق على أصحاب الطبول الذين يقفون في الخلف طبول التخمير، أما الذين في الوسط، فهم الذين يؤدون رقصات خاصة طبول الإركاب، كما يوجد بالوسط حامل البيرق (العلم). واشتهر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بحبه وتأثره بالعرضة التي يجيدها، وتواجده في كل المناسبات بين العارضين فيها، ومع أصوات الطبول وحاملا ومقبلا للعلم السعودي على كتفه ليرقص العلم مع ملك المملكة العربية السعودية ويجد السعوديون أنفسهم كثيرا في هذه العرضات والرقصات، لما تشكله من تعبير للفرح لديهم وخاصة أنها تثير كثيرا من مشاعر الرغبة في الاحتفال لدى كل شخص وإن كان جالسا في بيته ويتفرج على هذه العرضة عبر القنوات الفضائية، ومن المؤكد أن العرضة ستكون حاضرة في ختام مهرجان الجنادرية في مشهد يوضح مدى التلاحم بين المواطنين والملك لتكون رسالة لكل أمم العالم أن هؤلاء هم السعوديون يرقصون
ومليكهم بينهم، جزلا وفرحا به، كما هو فرح بهم.
ومن أشهر القصائد التي قيلت في العرضة؛ مني عليكم يأهل العوجا سلام ( للشاعر محمد العوني):
واختص أبو تركي عما عين الحريب يا حامي الونيات يا ريف الغريب
مني عليكم يأهل العوجا سلام
يا شيخ باح الصبر من طول المقام
وأخيرا وليس آخرا، يمكن القول إن مهرجان الجنادرية لم يعد حدثا وطنيا فقط بل اكتسب
أبعادا خليجية وعربية ودولية بتواصله واستمراره عاما بعد عام برعاية خادم الحرمين الشريفين حفظه الله واهتمام العلماء والمثقفين والفنانين السعوديين والتفاف المواطنين حول هذا المهرجان النابع من تراثه وأرضه وتاريخه المجيد وثقافته الإسلامية السمحة، واهتمامه بالحفاظ على التراث وتعميق الموروث، وربط الأصالة بالمعاصرة لإبراز الصورة المشرقة للمملكة والمكانة التي
احتلتها في نشر ثقافة الحوار والتسامح بين الشعوب. كما أن من أهدافه مد جسور التواصل بين الأمة العربية والإسلامية وشعوب العالم باعتبار ذلك أحد الغايات التي يقوم عليها المهرجان بالإضافة إلى ما يتضمنه من أنشطة وبرامج وفعاليات تضم مجالات النشاط الإنساني كافة في الثقافة والتراث والفنون والحياة الاجتماعية والعادات والتقاليد العربية الأصيلة التي ظل يكرسها
المهرجان خلال دوراته السابقة مما جعل منه واحدا من أبرز المهرجانات العالمية، والشكر موصول للقائمين على المهرجان وجميع اللجان المشاركة ومن يمثل الوطن من مناطقنا الغالية، وجميع المشاركين من الوزارات والمؤسسات الحكومية والأهلية والضيوف والزوار.
كتبه
الدكتور/ خالد بن عبدالله التركي
أستاذ الأنثروبولوجيا المشارك في جامعة القصيم عضو مجلس إدارة نادي الإبل