يرتبط الرضا الوظيفي بمقدار ما يتقاضاه الموظف من مرتب وحوافز مادية وبدلات أخرى، هذا صحيح، ولكن هذا الارتباط "نسبي" جداً بحسب التجارب الفعلية التي تناقض هذا الاعتقاد. إذ أن الرضا الوظيفي الذي تجلبه الحوافز المادية يتوقف عند النقطة التي يصل فيها الموظف لمستوى "الراحة" المعيشية، ثم تتلاشى بعدها. هذا على افتراض أن "الرضا الوظيفي" هو المعدل السائد لدى عامة الموظفين. بيد أن الأمر على العكس من ذلك، فعدم الرضا الوظيفي هو المعدل البارز لدى القوى الوطنية خاصةً تلك العاملة بالقطاع الخاص. وهو القطاع الذي يُعوَل عليه كمصدر مستقبلي لإنتاج الكفاءات الوطنية.
هناك رابطة وطيدة جداً بين الرضا الوظيفي وبين "تنمية" المواهب ورفع معدلات الإبداع والابتكار والقدرة على حل المشكلات، فكلما امتازت بيئة العمل بأنها محفزة للرضا الوظيفي، كلما أنتجت هذه البيئة قوى عاملة قادرة على المنافسة وصناعة التغيير. ومقدراتنا البشرية "الوطنية" اليوم أحوج أكثر من أي وقتٍ مضى لبث هذه الروح فيها.
لكن هل القطاع الخاص اليوم يملك الكفاءة اللازمة "لإنتاج" المواهب الوطنية التي نطمح إليها؟ وهل يملك القدرة على تنميتها والمحافظة عليها؟
من الصعب الإجابة على هذه التساؤلات بصورة مباشرة، إذ لا توجد المعايير التي تسمح لنا بقياس ذلك، لكن ثمة مؤشرات تصلح للاستعمال إذا ما أردنا أن نُلقي بعض الضوء على مصير المقدرات الوطنية في المستقبل. من ذلك إذاً معدلات عدم الرضا الوظيفي، وهي النتائج المباشرة لسوء "إدارة" الموارد البشرية وبالتالي "تحجيم" تنمية المواهب وعدم فسح المجال لإطلاقها.
والنتائج السلبية التي تعبر عن عدم الرضا الوظيفي، لها بالطبع أسبابها التي تتمخض عنها، وهي التي تحتاج "للإصلاح" في المقام الأول باعتبارها التشكيلة الرئيسة والمصدر لنشوء عدم الرضا. قد يأتي في مقدمة تلك الأسباب (عدم تقدير) الكوادر الشابة ومنحها الاستقلالية والمشاركة في صنع القرار، علاوةً على تهيئة المناخ الاحترافي الذي يخلق نوعاً من التحفيز الذي يدفع العاملين لإظهار "أفضل" ما لديهم.
هذه المفاهيم وغيرها، لا تتطلب مجرد السماح بممارستها، بل تتطلب قيادات "تعي" أهميتها وبالتالي أثرها على السلوك التنظيمي للعاملين. فنحن لسنا بحاجة الى قيادات تمارس "الإدارة" الجبرية والسيطرة والتحكم بالمرؤوسين، إننا بالأحرى بحاجة الى قيادات تبث روح "القيادة" في العاملين.
لا يساورنا الشك أن القطاع الخاص يحتضن اليوم آلاف المواهب الوطنية، ولكن هذه المواهب لا يُمكن أن تُظهِر نفسها بنفسها إذا هي لم تجد من يسمح لها بالظهور. إنها دعوة لعدم "دفن" المواهب الشابة ومنحها التقدير اللازم والاستقلالية وجعلها جزءاً مشاركاً في بناء المنظمات. فمن هذه الطريق يُنتِج لنا القطاع الخاص الكوادر الوطنية التي نطمح اليها.