تُعد الشحاذة والتسول والكُدية والاستجداء ظواهر اجتماعية قديمة جديدة، بَيْدَ أن فيها من الطرافة والغموض ما يدفع إلى تقصّي نشأتها وتتبع مراحل تطورها. فالكدية مصطلح له أكثر من معنى، فقد اختلف اللغويون والمعجميون في أصل الكلمة اللغوي من حيث ارتباط دلالتها بالسائل. فمن قائل أن الكدية لفظة عربية مشتقة من أكدى، إلى ثانٍ يرى أنها محرفة من أجدى، على حين يذهب ثالثهما إلى أنها لفظة معرّبة.
والحقيقة، فلم تكن الكدية المصطلح الوحيد الذي يطلق على حرفة السائلين، فقد ظهرت إلى جانبها كلمة الشحاذة، وأصبحت أكثر رواجاً في الاستعمال من لفظة كدية.
أما لفظة التسول أو الاستجداء فأصولها في القرآن الكريم والأحاديث النبوية وأقوال السلف الصالح ظاهرة بينة مشتهرة.
إن ظاهرة الشحاذة والكدية لم تنبثق فجأة في المجتمعات، ولكنها انتشرت فيها انتشاراً واسعاً نتيجة عوامل شتى، منها العوامل السياسية وما نجم عنها من حروب داخلية وخارجية، وهناك العوامل الاقتصادية تلك التي تتعلق بتبديد الثروة.
يضاف إلى ذلك عوامل أخرى أدت إلى نشوء الكدية والتسول وانتشارها، ومن بينها: أن مهنة الكدية مريحة لا تحتاج إلى جهد أو رأسمال. وقد أوصى السروجي ابنه قائلاً: ولم أر ما هو بارد المغنم لذيذ المطعم، وافي المكسب، صافي المشرب، إلا الحرفة التي وضع ساسان أساسها ونوّع أجناسها إذ كانت المتجر الذي لا يبور، والمنهل الذي لا يغور، يقصد حرفة التسول والاستجداء.
وللأسف، فإن ما بين أيدينا ليس مما يشفي الغليل عن مجتمع الشحاذين، والكتب التي حدثتنا عن أخبارهم وأحوالهم قليلة، وقد اخترمت يد الضياع بعضها. ويأتي في طليعة هذه الكتب المفقودة كتاب الجاحظ (حيل المكدين).
رغم ذلك يمكن القول أن المدن كانت تعد مراكز استقطاب لتجمعاتهم ومنها كانوا يقصدون الأماكن العامة للشحاذة والتسول إلى جانب تطوافهم على المنازل، وكانت المساجد من أشهر الأماكن التي كانوا يقصدونها.
ولم يكن الشحاذين ينطلقون إلى المساجد فحسب وإنما نجدهم يغشون الأسواق والساحات العامة يستجدون فيها.
والشائع في حياة المتسول والغالب على طبعه ألا يستقر في مكان دائم ولا يحضنه بلد، يدور مع الفلك حيثما دار.
ولكنَّ قسماً آخر من المكدين آثر المكوث على التطواف. فعاش عمراً مديداً يستجدي في مدينة معينة، فلا يبرحها، قانعاً بما يناله.
ومن قبيل النادرة التي تسلط الضوء على هذا أنه كان رجل أعمى يطوف ويسأل، فأعطاه مرة إنسان رغيفاً، فدعا له وقال: أحسن الله إليك وبارك عليك وجزاك خيراً وردّ غربتك فقال له الرجل: ولِمَ ذكرت الغربة في دعائك، وما علمك بالغربة؟! فقال: الآن لي هاهنا عشرون سنة ما ناولني أحد رغيفاً صحيحاً!!.
ومما يجدر ذكره أن الجاحظ أول من صنفهم أعني الشحاذين والمكدين، وذكر كذلك بعض حيلهم، فأثبت خمسة عشر صنفاً للمكدين هي: الكاغاني ، القرسي، المشعّب، الفلور، الكاخان، العوّاء، الإسطيل، المزيدي، المستعرض، المخطراني، البانوان، المقدسي، المكدي، الكعبي، الزكوري.
وقد اعترف الجاحظ أنهم أضعاف ذلك العدد وأنه لم يذكر سوى ما جاء في حديث خالويه. وكان البيهقي قد أضاف إلى ما ذكره الجاحظ الأصناف التالية: المكي، السحري، الشجوي، الذرارحي، الحاجور، الخاقاني، السكوت، الكان، المفلفل، زكيم الحبشة، زكيم المكافيف، المطين.
وأغنى مصدر استعرض أصنافهم وحيلهم هو قصيدة أبي دلف الخزرجي التي أثبت الثعالبي جزءاً كبيراً منها في يتيمته، أما الجوبري العالم الدمشقي المعروف فقد أماط اللثام عن حيلهم وهتك أستارهم في كتابه (المختار في كشف الأسرار)، ويمكن الاستفادة عادة من قصيدة صفي الدين الحلي الساسانية، ومن بابية عجيب وغريب، لابن دانيال في هذا المجال.
لقد كانت حرفة الشحاذ تجعله أكثر حاجة إلى الناس والتصاقاً بهم، فهو يعيش على ما تجود به الأيدي وتطيب عنه النفوس. ولكن الحرمان الذي كان يتعرض له جعله ينشيء علاقة تعاون وثيق بينه وبين بعض الفئات الاجتماعية.
وقد صوّر لنا شعر المكدين والشحاذين أحوالهم خير تصوير، فقد كانت حياة المتسول تسير على وتيرة واحدة يتوزعها أمران: تطواف مبكر يستجدي فيه الناس، وعودة في المساء حيث يكون التعب قد هدّ جسده وأنهكه.
والسعي في عرف المستجدين أمر مهم رغم الضنى والإجهاد اللذين يصيبان المستجدي. وقد أشاد بفضله كبار زعمائهم وشعرائهم. فرُوي أنه (كتب على عصا ساسان: الحركة بركة، والتواني هلكة، والكسل شؤوم، والأمل زاد العجزة، وكلب طائف خير من أسد رابض، ومن لم يحترف لم يعتلف).
وقد افتخر أبو دلف بتطواف أقرانه وتنقلهم بين أصقاع الأرض، تتقاذفهم البلدان والأمصار، وشاطره في افتخاره الأحنف العكبري فقال:
قطعنا ذلك النهج بلا سيف ولا غمْدِ
وقد وصف متسول آخر خروجه المبكر وهو يرتدي ثيابه المهلهلة، ويحمل أدوات سعيه فقال:
لقد غدوت خَلِق الثياب معلـق الزنبيل والجـراب
طبًّا بدقّ حلق الأبواب اسمع ذات الخدر والحجاب
وقد كان المكدون يستجدون ويشحذون الملابس وفضلات الأطعمة والنقود.
وقد ورد على لسان عاذر بين شاكر أنه كان يتخذ دفتراً يدوّن فيه أسماء من يستجديهم ، فقال:
دفتر فيه أسامي وكريم يظهر البشــ يوجب النصف عليه أو فـــلـــوسـاً كــــل شـــهـــــر |
كل قرمٍ وهمامِ رَ لنا عنّد السلامِ حاتماً في كل عامِ لــــثـــــلاثـــــيــــن تـــــــمـــــامِ |
وبعد، فقد كانت رحلتنا مع الشحاذة والكدية رحلة شاقة عسرة، ولكنها كانت عذبة شائقة، إذ كنا نعيش فيها متعة الاكتشاف والبحث لاستجلاء الصورة الحقيقية لهذه الظاهرة، ومن خلال ذلك عشنا مع مادة ذات نكهة خاصة مميزة.
أ . د / زيد بن محمد الرماني
ــــ المستشار الاقتصادي
وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
التعليقات 1
1 pings
محمد الشيخلي
15/11/2018 في 4:07 م[3] رابط التعليق
جزاك الله خيرا دكتور
اليوم اصبحت هذه العادات اسوئ من قبل فقد تفنن الصغار والكبار الرجال والنساء في الاستجداء ولا حول ولاقوة الا بالله اللهم اننا
نعوذ بك من الفقر
(0)
(0)