بعض شبابنا يمثل الشريحة الأكثر تأثراً وتمثيلا لسلوكيات التصحر النفسي، بما يفيد غياب القيم أو تدني درجة التمسك بالقيم النبيلة المستمدة من الشرائع السماوية السمحاء، فقد تزايد الشكوى منهم في محيط الأسرة ، الجامعة ، المدرسة، بتخليهم عن روح التعاون والشعور بالمسؤولية وعدم الاحترام وازدياد الروح العدوانية والنزوع إلى تخريب الممتلكات والغش واستخدام الألفاظ النابية وظهور أنماط من السلوك غير المرغوبة اجتماعيا ،والانصراف الى اللهو والصخب وقلة الاهتمام بالعلم وعدم احترام مشاعر الآخرين والسلوك الجاف عاطفيا والاندفاع وراء نزواتهم الخاصة ورفض مستمر للسلطة والعلاقات العائلية.
لقد ظهرت في مجتمعاتنا العربية في الآونة الأخيرة أساليب بشعة من الجرائم والمتمثلة بالتفجير للمساجد وغيرها بهدف الانتقام من المجتمع ، وجرائم قتل الوالدين أو أحدهما للحصول على الأموال للصرف على نزوات العهر والمزاج ، وجرائم قتل أخرى انتقاما من طائفة مغايرة لهم في المعنقد، وآخرون يدهسون بمركباتهم أطفالا وشيوخا وهم في حالة نشوى، وآخرين يرهقهم البحث عن الثراء السريع فيقدمون على أرخص الأساليب المحرمة شرعا وقانونا وعرفا بالإتجار في المخدرات بأنواعها واستدراج الأبرياء من المراهقين في حلقات التفحيط لعالم الإدمان والعدوان الجنسي ثم استغلالهم في ترويج تجارتهم تحت التهديد بفضحهم والتشهير بهم، وآخرين يرتكبون جرائمهم وهم جلوس أمام شاشات الكمبيوتر ومن خلال غرف الدردشة يوقعون بضحاياهم من الفتيات في براثن تجارة الرقيق الأبيض أو ممارسة الرذيلة... وكلها جرائم تشير فيما تشير إليه إلى دناءة مرتكبيها والى نوع الاضطراب الذي يعاني منه والى نمط الشخصية الدال عليها فهو أسلوب يخلو من الرحمة والعطف والمشاعر الإنسانية وهو في جملته ما نسميه تصحراً نفسياً.
التصحر النفسي لا يمكن أن تنشأ من فراغ، ففي كثير من الحالات تبدأ في الأسرة وتترك أثارها على المجتمع بشكل عام وقد تجلت هذه المشكلة في ارتكاب الجرائم بأشكالها المتنوعة وكذلك تجلت في رفض الشباب لآبائهم وأمهاتهم لاسيما في مرحلة الشيخوخة التي يكون فيها الآباء بأشد الحاجة إلى الرعاية من قبل الأبناء، فأن لم يجدوها اضطروا إلى ترك البيت واللجوء إلى البحث عن أماكن أكثر أمنا نفسيا واجتماعيا وغالبا ما يلجئون إلى دور الدولة لرعاية المسنين فقد تصحرت نفوس الأبناء فجحدوا أمهاتهم وأباءهم. وأدهى من ذلك لحد المرارة ذلك النوع من الشباب الذي يعيش مع والديه تحت سقف بيت واحد ويسخر منهما ويتمرد عليهما ويردد بلا أدنى عاطفة تجاههما من قال لكما تنجباني.. لا حول ولا قوة إلا بالله.. ويستمرئ أن يسخر من تصرفاتهما وكأنهما خادمين عنده، ولا يعجبه أي تصرف من أحدهما وقد يصف أمه بالمتخلفة وليس لها أن تفعل كذا وكذا ...وكأنهما أنجباه ليعيد هو تربيتهما على كبرهما... إننا أمام حالة تصحر نفسي شديدة الخطورة حقيقية يتمثل في خلو الشباب من العواطف والأحاسيس الإنسانية التي تجعل سلوكهم جافا خاليا من المشاعر الإنسانية، مما تستوجب الوقوف عندها بدقة لغرض معالجتها على وفق أسس علمية اعتمادا على الدور الذي يمكن أن تلعبه هذه الشريحة المهمة في المجتمع.
قد يكون لأساليب المعاملة الوالدية الخاطئة في التربية إسهاما بشكل او بآخر في حدوث الانحرافات السلوكية المبكرة، والتراث البحثي في مجال التربية وعلم النفس يؤكد على وجود مؤشرات ازدياد الانحرافات السلوكية عند الأفراد الذين يفتقدون الى الحب والعطف الأبوي، وأنه كلما كان السلوك المنحرف أكثر حدة كان احتمال وجود حرمان عاطفي من قبل الوالدين، وأن الحرمان العاطفي بحد ذاته تكون أهميته اقل في تكوين الشخصية السيكوباثية من تكوين الاضطرابات العاطفية التي من المحتمل ان ينتج عنها سلوك خالي من العواطف. وأن الحرمان العاطفي والرفض القاسي من قبل كلا الوالدين أو أحدهما من أهم أسباب الضعف العاطفي لدى ابنائهم، أما الرفض المعتدل والمقترن مع فقدان أحد الوالدين قد ينشأ الجمود العاطفي لدى الأبناء وأن الطفل الخالي من العواطف وغير المتكيف اجتماعيا عانى من رفض من قبل الوالدين بصور متواصلة خصوصا من جهة الأم. وأن السلوك المتصحر عاطفيا مرتبط بأساليب التأديب والتكيف الاجتماعي الغريبة والمتقلبة.
وإن الأسرة المتفككة أو التي تعاني من فقدان أو غياب أحد الوالدين ولفترة طويلة غالبا ما تظهر على بعض أبنائها سلوكيات جافة عاطفيا وهذا يعني قطع علاقة هامة جداً لا يعرف الطفل كيف يتعامل مع ذلك الموقف إلا بالنضال ضد المجتمع وبالسرقة والاعتداء على الآخرين دون الأخذ بنظر الاعتبار أية قيمة لمشاعرهم. وإن سوء العلاقات بين الوالدين وأسلوب المعاملة غير الصحيح المتبع لتربية الأبناء يكون سببا مهما في حدوث التصحر العاطفي عند الطفل ويستمر معه حتى البلوغ.
لذا وجب علينا أن نعيد تأمل ما كنا نحفظه من كبارنا ومعلمينا ونحن صغارا (من زرع حصد)، وهل كل من زرع حصد حصدا جميلاً؟ كلنا يزرع ولكن بقدر المدخلات الطيبة في الزرعة ورعايتها يكون الحصاد طيباً، والعكس صحيح تماماً. وتأملوا وتدبروا قول اللهY ) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ( الطور:21.
ويبقى سؤال مفاده: ماذا لو قدم الوالدان لابنهما كل صنوف الرعاية الواجبة، ومع ذلك يجحدهما وينكرهما؟ هذا ما أحاول الإجابة عليه في مقال قادم بإذن الله تعالى.
د. رضا محمد عريضة
أستاذ علم النفس الاجتماعي
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.