يعيش العالم منذ عدة عقود في إطار ثورة المعلومات وانفجار المعارف المتولدة من وسائل التكنولوجيا والاتصالات والبرمجيات، حيث أضحت تكنولوجيا المعلومات رافداً جوهرياً في عملية الإنتاج الحديث، ونظراً لكثافة وتلاحق المعرفة الإنسانية بشتى جوانبها، فقد تحول الاقتصاد العالمي برمته إلى اقتصاد قائم على ركيزة المعرفة العلمية، كما أن عملية التطور المتسارعة على صعيد العلم والتكنولوجيا قد أفضت إلى تحول العالم بأكمله إلى مجتمع واسع للمعرفة والإدراك.
إن المملكة العربية السعودية ليست بمنأى عن هذا الانفجار الهائل لعصر المعلومات والعولمة، حيث إنها تعيش في صميم عصره وتطبق كافة تقنياته وتستصحب آلياته وتطبقها في كافة خططها ومشاريعها المختلفة لتحقيق التحول المنشود والتنمية المستدامة وإقامة مجتمع معلوماتي سعودي على غرار كافة المجتمعات المتقدمة الأخرى.
ووسط هذا الطوفان والخضم الزاخر من المعلومات والتكنولوجيا المتلاحقة والكم الكثيف من المعرفة، كان لزاماً علينا معرفة موقع أطفالنا منه بحسبانهم كل المستقبل، وماهي أبعاد تعاملهم واستفادتهم منها وتنشئتهم عليها، والتداعيات الإيجابية والسلبية التي يمكن أن تلقي بظلالها عليهم؟ ومدى أهمية تزويدهم بالمعرفة لبناء جيل واع متسلح بالعلم والتكنولوجيا، في سبيل صياغتهم لمستقبلنا المنشود. وتبرز لنا في هذا الجانب عدة مشكلات مادية ومعنوية تحول دون اكتساب الأطفال للمعرفة والعلم بالكيفية المنشودة، مما يجعلهم بعيدين عن عملية التكيّف مع عصر العولمة والمعلومات الراهنة.
أولى هذه المشكلات هو تمسك المجتمع وإلى يومنا هذا ببعض الطرق التقليدية لإيصال المعلومات وترسيخها في نفوس هؤلاء النشء، ومهما اعترى هذه الطرق من اتباع لأساليب التشويق والجذب ولفت الانتباه وإيصال المعارف والعلوم للطفل من خلال الرسوم والتوضيحات وعرض المشكلات والأسئلة التي تدور حولها، وطرق التلقين والتعبئة بالمعلومات، إلا أنها تظل ضئيلة الجدوى بالنظر إلى وسائل التعليم الحديثة التي يتم فيها استخدام التكنولوجيا الحديثة لإضفاء عملية السهولة والفاعلية والمتعة بغية الوصول إلى عملية التعلم والمعرفة المستهدفة، حيث توفر هذه الطريقة للأطفال كيفية استخدامهم للشبكة العنكبوتية بهدف الوصول إلى المعلومات والمعارف المختلفة التي يسعى إليها الطفل من خلال البرمجيات المتعددة، كما توفر لهم الطرق الحديثة للوقوف على أحدث الاكتشافات والتطورات في سائر جوانب المعرفة الإنسانية، وفي هذا المضمار فقد استطاعت دول عدة أن تجعل من الحواسيب وأدوات التقنية الصغيرة أساساً لتعلم الأطفال الذين غدوا يروحون إلى مؤسساتهم التعليمية دونما حقائب أو دفاتر ورقية عفا عليها الزمن، فالطفل مستقبلاً لن تصبح لديه كراسة وكتاب وقلم وممحاة، كما ستختفي سطوة أقلام الرصاص والمبرأة والممحاة والحبر، بل ربما لايتم الاعتماد على على الورق لتعليم وتعلم الأطفال، حيث سينتهي أدوار كل تلك الأدوات، وتصبح ذكرى محفورة في مخيلة أطفالنا، تماماً كما اختفت ريشة الطيور التي كانوا يكتبون بها، وذلك نظراً لطفرات الحزم التقنية الكثيفة التي تبثها وسائط التكنولوجيا المختلفة.
إن عملية اكتساب المعرفة لدى الأطفال لازالت رهينة لدينا على الجهود الذاتية المبذولة سواء من جانب البيت أو المدرسة، وهذا في حد ذاته إخفاق يحول دون ولوج الأطفال إلى عالم البرامج والبرمجيات الحديثة بمعارفها المتشعبة ووسائلها المشوقة للابتكار والاختراع بعيداً عن الحفظ والتلقين، وفي هذا الجانب فلابد من إيجاد معادلة مقبولة وإحداث مواءمة بين الجهود المبذولة من جانب الأسرة والبيت من جهة، وبين تفاعل الطفل مع البرمجيات بحيث تكون جهود الأسرة 50% وجهود تلك البرمجيات 50% على الأقل.
إن عقلية طفل اليوم في عالمنا الراهن تتسم بالنضج أكثر من كل تلك الأجيال التي سبقتهم، وذلك نظراً لثورة المعلومات وانفجار وسائط التكنولوجيا والبرمجيات المتلاحقة، وفي هذا الشأن حري بأن يكون القائمون على تربية هؤلاء النشء على مصاف المواكبة والمستوى المتلاحق لتلك الوسائط، كما أن تلك الوسائل التي كانت ذات جدوى في المعرفة، أضحت لا قيمة لها في هذا عصر العولمة الحالي، فلا بد من اتباع السبل الناجعة لإدخال هؤلاء الأطفال في منظومة الابتكارات والاختراعات لنجني مستقبلاً واعداً وقطافاً مثمراً من هذه الأجيال الصاعدة.
كما أن هنالك نقصاً حاداً في مكتبات الطفل ذات المواد الحديثة والملائمة لتفتيح مدارك الأطفال صوب الابتكار لا الحفظ والتلقين، إذ نجد ان كثيراً مما هو متاح منها في هذا الجانب ليس إلا مواداً أو قصصاً عن ماضينا العربي والإسلامي وإشراقاته، دونما استصحاب لأبعاد وجوانب الحضارة الإنسانية العريضة والواسعة بما انطوت عليه من اكتشافات واختراعات قيّمة.
ونخلص إلى أنه قد أضحى للتكنولوجيا الراهنة دور جوهري في سبيل اكتساب الطفل للمعارف المختلفة وتنمية ذكائه من خلال الأجهزة الحديثة كالآيباد والهواتف الذكية وغيرها بتطبيقاتها الحديثة التي تمكنهم تصفح الكتب الإلكترونية وتعلم لغات جديدة واكتساب المهارات اللازمة لتنمية علاقاتهم الاجتماعية عبر التواصل مع أصدقائهم وأقاربهم، إلى جانب ان تلك الوسائط التقنية تعلم أطفالنا الكيفية المثلى لتحقيق أهدافهم من خلال ممارسة التطبيقات الخاصة بالأنشطة والألعاب الإلكترونية التي تغرس في نفوسهم أداء المهام لدى قيامهم بالانتقال من مستوى لآخر في تلك التطبيقات والألعاب. وحري بنا في هذا المقام التنويه إلى بعض سلبيات تلك الوسائط التكنولوجية على أطفالنا حيث تأتي في صدارتها ميل أطفالنا للتوحد والانعزال عن العائلة والأصدقاء وتفضيل قضاء الأوقات مع تلك الأجهزة بعيداً عن عوائلهم وأصدقائهم، فضلاً عن الأضرار الصحية الناجمة عن مكوث الأطفال لساعات عديدة أمام تلك الأجهزة وإمكانية تعرضهم للأشعة المنبعثة عنها وما يستصحبها من أمراض في هذا الصدد، علاوة على الانفتاح اللامحدود التي قد تعرضهم لاطلاعهم على محتويات غير متسقة مع أعمارهم وعقلياتهم المحدودة التي تعجز عن التمييز بين الخطأ والصواب والغث والسمين، بجانب أن الأطفال قد يكتسبون ميولاً للعنف والعدائية جراء مشاهدتهم للحروب والمعارك التي يشاهدونها ويحاولون تطبيقها في حياتهم الواقعية، ومن هنا يأتي الدور الكبير للأسرة المنوط بها عملية التوجية والرعاية للأطفال، بغية الاستفادة المثلى والسليمة من تلك الأجهزة والحد من تداعياتها السالبة على أجيال المستقبل.
إن انفجار المعرفة وثورة المعلومات كان لها القدح المعلى في كثافة المعرفة الإنسانية وتراكمها بسرعة رهيبة، لا سيما المعرفة العلمية والتكنولوجية، حيث أضحى مجتمع المعلومات لصيقاً بمجتمع التعليم، فما أحرانا بتسخير كافة إيجابيات ذلك المجتمع واستنباط الفوائد المثلى منه، لتنشئة أطفالنا عليه وتأهيلهم للمستقبل الواسع والعريض المرجو منهم.
د. جواهر بنت عبد العزيز النهاري
باحثة سعودية