مثلما يرتبط الإنسان بالأرض التي يعيش عليها وتمثل له المكان الذي يمارس عليه نشاطه في الحياة، فإن القصيدة ترتبط كذلك منذ زمن بعيد برموز مكانية تنطلق منها أفكار الشعراء لتحلق في آفاق بعيدة من المعاني والرؤى والآمال والأحلام. ومثلما تتلون القصيدة بعناصر زمانية وصفات دلالية ، فإن العناصر المكانية تعتبر المركز المادي الذي تتفرع منه كل العناصر الأخرى للقصيدة. وكما ان للأرض جاذبية تشد كل ما خلق الله عليها من الأحياء والمخلوقات لحالة السكون والثبات والاستقرار، فان مركز القصيدة المتمثل في الكينونة المادية، يمثل أيضا جاذبية تعمل على شد خيال الشاعر إلى حيث تكون طبيعة المكان على الأرض.
هذه الأزلية في ارتباط القصيدة برموز مكانية يعبر عنها الشاعر لأغراض استدلالية، لا تزال منذ العصور القديمة وحتى يومنا هذا هي ذلك النمط العام الذي يشكل خصائص القصيدة والقصة والرواية والخطابة والمقالة وغيرها من الفنون الأدبية. ولكن ماذا لو استطاع الشعراء التخلص من قيود استشعار العنصر المكاني في القصيدة مثلما استطاع الإنسان الانتقال من مكانه (الأرض) وعبر مجال الجاذبية الأرضية بمركبات فضائية ابتعدت به عن الأرض ليكتشف آفاقا جديدة للمعرفة! هل ستشهد هذه المرحلة المستقبلية الافتراضية حينئذ ميلاد قصيدة جديدة ذات سمات وخصائص فنية مختلفة عن تلك السمات التقليدية المرتبطة بالمكان ؟
فمثلا هل يمكن استبدال الرموز المكانية بأدوات أخرى في بيت الشاعر محمد السديري الذي يقول فيه:
يقول من عدى على راس عالي ** رجمٍ طويلٍ يدهله كل قرناس
في هذا البيت مثلا نجد ان الشاعر استخدم مفردتين للدلالة على المكان وهما « راس، ورجم « وكلاهما مفردتين تعبر كل منهما عن معنى واحد هو المكان الذي وقف عنده الشاعر. وقد استعار لفظة « الرجم الطويل»، وهي تكرار جاء لتوضيح معنى كلمة «راس» في الشطر الأول.
باعتقادي انه من غير الممكن للقصيدة العربية ان تنتقل كليا في هذا الزمن إلى مرحلة تتجاوز حدود المكان الذي نشأ فيه وعاش عليه الشاعر حياته. اذ يشكل البعد المكاني بالنسبة له ذلك المحتوى الذي يفرغ فيه همومه وشجونه، وذلك المجال الذي تنطلق منه آماله وآلامه وأمنياته.
تكاد لا تخلو أي قصيدة من الاستشهاد بالمكان لكي يبرهن الشاعر عن أفكاره وآماله تجاه أمر محدد. الا ان عددا قليلا فقط من الشعراء تمكن من سرد قصيدته دون ان يورد ذكر أسماء لأماكن ومواقع ومظاهر طبيعية كثيره تسهم في الحد من التعبير خارج مجال الكينونة المادية وبالتالي تفقد الرؤية الشعرية شيئا من بريقها وجزالة المدلولات المعنوية في أبياتها.
ومن هؤلاء الشعراء يبرز الشاعر راشد الخلاوي الذي تتميز معظم قصائده بالتغريد خارج المجال المكاني معتمدا على معاني لا ترتبط بكينونة مادية على الأرض مما أكسبها قوة في المعنى وجزالة في اللفظ ودقة في التصوير. ومما قاله راشد الخلاوي:
فلا بالتمني تبلغ النفس حظهـــا ** ولا بالتأني فـــــــاز بالصيــــد طالبه
ولا عاب قوم قط الا حسودهـم ** ومن عاب شخص عاجزٍ عن مراتبه
ومما قال أيضا:
حياةٌ بلا عــــزٍّ محــى الله حظــها ** حيـــاة الفتى لانفاتها العــــز خايبه
مقام الفتى في منصب العز ساعه ** ولا الف عام يصحب الذل صاحبه
يلاحظ من هذه الأبيات أن الشاعر يبتعد عن الاستعانة بالوصف المكاني المحسوس، فجاءت كلماته معبرة بقوة عن مدلولات معنوية مثل التمني والحسد والحظ والعز والذل. وفي مثل هذه الأبيات يرتقي المعنى فوق مستوى الماديات وتسمو الصفات على ما سواها من صفات المكان. ومن هنا تجلت الحكمة في كثير من قصائده رحمه الله.
وفي قصيدة أخرى يكثر فيها الشاعر بديوي الوقداني من ذكر الأماكن ويقول فيها:
ما ضاقت الأرض وانسدت مذاهبها ** فيها السعة والمراجـــل والتنقالي
دارٍ بـــدار وجيـــــرانٍ نقــــــاربها ** وارضٍ بأرض وأطلالٍ بأطـلالي
ويقول:
الأرض لله نمشي فـــي مناكبـــــها ** والله قدر لنا أرزاق وآجــــــــالي
حث المطايـا وشرِّقــهـا وغرِّبــــها ** واقطع بها كل فـجٍّ دارسٍ خالــي
واطعن انحور الفيافـي في ترايبـها ** وابعد عن الهم تمسي خالي البالي
نلاحظ في القصيدة قوة ارتباط الشاعر بالمكان الذي عبر عنه بمفردات "الأطلال والديار والصحاري" فهو يحث نفسه هنا ويحث الآخرين على التنقل والترحال في ارض الله الواسعة موضحا أن النفس عندما تثقل بهموم الحياة وأشجانها فان تغيير المكان بحثا عن الرزق وابتعادا عن الهموم انما يكون الخيار الوحيد للخلاص من عذابات النفس. وبالرغم من قوة القصيدة وجودة البناء اللغوي فيها إلا أن الشاعر رحمه الله قد أسهب كثيرا في الاستعانة بمفردات مكانية ليبحر في سرد الأفكار بأدوات ترتبط بالمكان الذي عاش فيه أو رحل اليه.